محمد
محمّد،
يعشّش في حضن والده طائراً خائفاً
من جحيم السماء: احمني يا أبي
من الطيران إلى فوق! إنّ جناحي
صغيرٌ على الريح... والضوء أسود
محمّد،
يريد الرجوع إلى البيت، من
دون درّاجة... أو قميصٍ جديد
يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ...
إلى دفتر الصرف والنحو: خذني
إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي
وأكمل عمري رويداً رويداً...
على شاطئ البحر، تحت النخيل
ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد
محمّد،
يواجه جيشاً، بلا حجرٍ أو شظايا
كواكب، لم ينتبه للجدار ليكتب:
"حريتي لن تموت".
فليست له، بعد، حريّة
ليدافع عنها. ولا أفقٌ لحمامة بابلو بيكاسو.
وما زال يولد، ما زال
يولد في اسمٍ يحمّله لعنة الاسم. كم
مرةً سوف يولد من نفسه ولداً
ناقصاً بلداً... ناقصاً موعداً للطفولة؟
أين سيحلم لو جاءه الحلم...
والأرض جرح... ومعبد؟
محمّد،
يرى موته قادماً لا محالة. لكنّه
يتذكر فهداً رآه على شاشة التلفزيون،
فهداً قوياً يحاصر ظبياً رضيعاً.
وحين
دنا منه شمّ الحليب،
فلم يفترسه.
كأنّ الحليب يروّض وحش الفلاة.
إذن، سوف أنجو - يقول الصبيّ -
ويبكي: فإنّ حياتي هناك مخبأة
في خزانة أمي، سأنجو... واشهد.
محمّد،
ملاكٌ فقيرٌ على قاب قوسين من
بندقية صيّادة البارد الدم.
من
ساعةٍ ترصد الكاميرا حركات الصبي
الذي يتوحّد في ظلّه
وجهه، كالضحى، واضح
قلبه، مثل تفاحة، واضح
وأصابعه العشر، كالشمع، واضحة
والندى فوق سرواله واضح...
كان في وسع صيّادٍهٍ أن يفكّر بالأمر
ثانيةً، ويقول : سـأتركه ريثما يتهجّى
فلسطينه دون ما خطأ...
سوف أتركه الآن رهن ضميري
وأقتله، في غدٍ، عندما يتمرّد!
محمّد،
يسوع صغير ينام ويحلم في
قلب أيقونةٍ
صنعت من نحاس
ومن غصن زيتونة
ومن روح شعب تجدّد
محمّد،
دمٌ زاد عن حاجة الأنبياء
إلى ما يريدون، فاصعد
إلى سدرة المنتهى
يا محمّد!
البداية
شتاء ريتا
ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ
وهذه الأزهار أكبر من سريري
فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل
ضع ههنا قمراً على الكرسيّ
ضع فوق البحيرة
حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى
هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ
لتجهش كلما التفّت على جذعي فروعك ؟
حكّ لي قدمي وحكّ دمي لنعرف ما
تخلفه العواصف والسّيول
منّي ومنك ...
تنام ريتا في حديقة جسمها
توت السياج على أظافرها يضيء
الملح في جسدي . أ حبّك .
نام عصفوران تحت يديّ...
نامت موجة القمح النبيل على تنفسها البطيء
و وردة حمراء نامت في الممر
ونام ليل لا يطول
والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا
يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري
فنامي بيني وبينك
لا تغطي عتمة الذهب العميقة بيننا
نامي يداً حول الصدى
ويداً تبعثر عزلة الغابات
نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون
نامي فرساً على رايات ليلة عرسها ...
هدأ الصهيل
هدأت خلايا النحل في دمنا
فهل كانت هنا ريتا
وهل كنا معا ؟
... ريتا سترحل بعد ساعاتٍ وتترك ظلها
زنزانةٌ بيضاء . أين سنلتقي ؟
سألت يديها ، فالتفتّ إلى البعيد
البحر خلف الباب ، والصحراء خلف البحر
قبلني على شفتي قالت .
قلت : يا ريتا أأرحل من جديد
مادام لي عنبٌ وذاكرةٌ ، وتتركني الفصول
بين الإشارة والعبارة هاجسا ً ؟
ماذا تقول ؟
لا شيء يا ريتا ، أقلد فارساً في أغنية
عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا ...
عنّي ؟
وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان
فواحدٌ يستل سكيناً وآخر يودع الناي الوصايا
لا أدرك المعنى ، تقول
و لا أنا ، لغتي شظايا
كغياب إمرأةٍ عن المعنى ،
وتنتحر الخيول في آخر الميدان ...
ريتا تحتسي شاي الصباح
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنت أنت ؟
أنا هو
هو من رآك غزالةً ترمي لآلئها عليه
هو من رأى شهواته تجري وراءك كالغدير
هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير
وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء
يأخذنا الرحيل في ريحه ورقاً
أمام فنادق الغرباء
مثل رسائلٍ قرئت على عجل
أتأخذني معك ؟
فأكون خاتم قلبك الحافي ، أتأخذني معك
فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك ... لتصرعك
وأكون تابوتا من النعناع يحمل مصرعك
وتكون لي حياً وميتاً
ضاع يا ريتا الدليل
والحب مثل الموت وعدٌ لا يرد .. ولا يزول
... ريتا تعدّ لي النهار
حجلاً تجمع حول كعب حذائها العالي :
صباح الخير يا ريتا
وغيماً أزرقاً للياسمينة تحت إبطيها :
صباح الخير يا ريتا
وفاكهةً لضوء الفجر: يا ريتا صباح الخير
يا ريتا أعيديني إلى جسدي لتهدأ لحظةً
إبر الصنوبر في دمي المهجور بعدك .
كلما عانقت برج العاج فرت من يديّ يمامتان ..
قالت : سأرجع عندما تتبدل الأيام والأحلام
يا ريتا طويل هذا الشتاء ، ونحن نحن
فلا تقولي ما أقول أنا هي
هي من رأتك معلقاً فوق السياج ، فأنزلتك وضمدتك
وبدمعها غسلتك ، انتشرت بسوسنها عليك
ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها وأنا هي
هل أنت أنت ؟
.. تقوم ريتا عن ركبتي
تزور زينتها ، وتربط شعرها بفراشةٍ فضيةٍ .
ذيل الحصان يداعب النمش المبعثر
كرذاذ ضوءٍ فوق الرخام الأنثوي
تعيد ريتا زر القميص إلى القميص الخردلي ... أأنت لي ؟
لك ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيّ ،
لي ماضٍ أراه الآن يولد في غيابك
من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب
لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة
لي رغوة الصابون
والعسل المملح
والندى
والزنجبيل
ولك الأيائل ،إن أردت ، لك الأيائل والسهول
ولك الأغاني ،إن أردت، لك الأغاني والذهول
إني ولدت لكي أحبك
فرساً ترقّص غابةً ، وتشق في المرجان غيابك
وولدت سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك
خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك
إني ولدت لكي أحبك
وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك
ووجدت حراس المدينة يطعمون النار حبك
وإني ولدت لكي أحبك
ريتا تكلار جوز أيامي ، فتتسع الحقول
لي هذه الأرض الصغيرة في غرفة في شارعٍ
في الطابق الأرضي من مبنى على جبلٍ
يطل على هواء البحر . لي قمرٌ نبيذيٌ ولي حجر صقيل
لي حصة من مشهد الموج المسافر في الغيوم ، وحصة
من سفر تكوين البداية و سفر أيوب ، ومن عيد الحصاد
وحصة مما ملكت ، وحصة من خبز أمي
لي حصة من سوسن الوديان في أشعار عشاق قدامى
لي حصة من حكمة العشاق : يعشق وجه قاتله القتيل
لو تعبرين النهر يا ريتا
وأين النهر ، قالت ...
قلت فيك وفيّ نهرٌ واحد
وأنا أسيل دماً وذاكرةً أسيل
لم يترك الحراس لي باباً لأدخل فاتكأت على الأفق
ونظرت تحت
نظرت فوق
نظرت حول
فلم أجد
أفقاً لأنظر ، لم أجد في الضوء إلا نظرتي
ترتد نحوي . قلت عودي مرةً أخرى إلي ، فقد أرى
أحداً يحاول أن يرى أفقاً يرممه رسول
برسالة من لفظتين صغيرتين : أنا ، وأنت
فرحٌ صغيرٌ في سريرٍ ضيقٍ ... فرحٌ ضئيل
لم يقتلونا بعد ، يا ريتا ، ويا ريتا .. ثقيل
هذا الشتاء وبارد
... ريتا تغني وحدها
لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركت أمي وحدها
قرب البحيرة وحدها ، تبكي طفولتي البعيدة بعدها
في كل أمسية تنام ضفيرتي الصغيرة عندها
أمي ، كلارت طفولتي وخرجت إمرأةً تربّي نهدها
بفم الحبيب . تدور ريتا حول ريتا وحدها :
لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى
في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول
عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل
لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول
وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة
تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟
خذني إلى أرض البعيدة
خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء
وكلارت خزف النهار على حديد النافذة
وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة
ورمت جواربها على الكرسي فانكلار الهديل
ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل
البداية
خطبة الهندي الأحمر
(هل قلت موتى?
لا موت هناك
هناك فقط تبديل عوالم)
سياتل زعيم دواميش
1
إذًا، نحن من نحن في المسيسبّي. لنا ما تبقّى لنا من الأمس
لكنّ لون السّماء تغيّر، والبحر شرقًا
تغيّر، يا سيّد البيض! يا سيّد الخيل، ماذا تريد
من الذّاهبين إلى شجر اللّيل?
عاليةٌ روحنا، والمراعي مقدّسةٌ، والنّجوم
كلامٌ يضيء... إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلّها:
ولدنا هنا بين ماءٍ ونارٍ... ونولد ثانيةً في الغيوم
على حافّة السّاحل اللاّزورديّ بعد القيامة... عمّا قليل
فلا تقتل العشب آكثر، للعشب روحٌ يدافع فينا
عن الرّوح في الأرض /
يا سيّد الخيل! علّم حصانك أن يعتذر
لروح الطّبيعة عمّا صنعت بأشجارنا:
آه! يا أختي الشّجرة
لقد عذّبوك كما عذّبوني
فلا تطلبي المغفرة
لحطّاب أمّي وأمّك...
2
... لن يفهم السّيّد الأبيض الكلمات العتيقه
هنا، في النّفوس الطّليقة بين السّماء وبين الشّجر...
فمن حقّ كولومبوس الحرّ أن يجد الهند في أيّ بحر،
ومن حقّه أن يسمّي أشباحنا فلفلاً أو هنودا،
وفي وسعه أن يكلاّر بوصلة البحر كي تستقيم
وأخطاء ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ البشر
سواسيّةٌ كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!
وأنّهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة، لكنّهم يعبدون
إله الطّبيعة في كلّ شيءٍ... ولا يعبدون الذّهب...
وكولومبوس الحرّ يبحث عن لغةٍ لم يجدها هنا،
وعن ذهبٍ في جماجم أجدادنا الطّيّبين وكان له
ما يريد من الحيّ والميت فينا. إذًا
لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنّهاية?
ولم يبق منّا سوى زينةٍ للخراب، وريشٍ خفيفٍ على
ثياب البحيرات. سبعون مليون قلبٍ فقأت... سيكفي
ويكفي، لترجع من موتنا ملكًا فوق عرش الزمان الجديد...
أما آن أن نلتقي، يا غريب، غريبين في زمنٍ واحدٍ?
وفي بلدٍ واحدٍ، مثلما يلتقي الغرباء على هاوية?
لنا ما لنا... ولنا ما لكم من سماء
لكم ما لكم... ولكم ما لنا من هواءٍ وماء
لنا ما لنا من حصًى... ولكم ما لكم من حديد
تعال لنقتسم الضّوء في قوّة الظّلّ، خذ ما تريد
من اللّيل، واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك
من اللّيل، واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك
وخذ ما تريد من البحر، واترك لنا موجتين لصيد السّمك
وخذ ذهب الأرض والشّمس، واترك لنا أرض أسمائنا
وعد، يا غريب، إلى الأهل... وابحث عن الهند /
3
... أسماؤنا شجرٌ من كلام الإله، وطيرٌ تحلّق أعلى
من البندقيّة. لا تقطعوا شجر الاسم يا أيّها القادمون
من البحر حربًا، ولا تنفثوا خيلكم لهبًا في السّهول
لكم ربّكم ولنا ربّنا، ولكم دينكم ولنا ديننا
فلا تدفنوا اللّه في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا
كما تدّعون، ولا تجعلوا ربّكم حاجبًا في بلاط الملك!
خذوا ورد أحلامنا كي تروا ما نرى من فرح!
وناموا على ظلّ صفصافنا كي تطيروا يمامًا يماما...
كما طار أسلافنا الطيّبون وعادوا سلامًا سلاما.
ستنقصكم، أيّها البيض، ذكرى الرّحيل عن الأبيض المتوسّط،
وتنقصكم عزلة الأبديّة في غابةٍ لا تطلّ على الهاوية
وتنقصكم حكمة الانكسارات، تنقصكم نكلاةٌ في الحروب
وتنقصكم صخرةٌ لا تطيع تدفّق نهر الزّمان السّريع
ستنقصكم ساعةٌ للتّأمّل في أيّ شيءٍ، لتنضج فيكم
سماءً ضروريّةً للتّراب، ستنقصكم ساعةٌ للتّردّد ما بين دربٍ
ودربٍ، سينقصكم يوربيدوس يومًا، وأشعار كنعان والبابليّين،
تنقصكم
أغاني سليمان عن شولميت، سينقصكم سوسنٌ للحنين
ستنقصكم، أيّها اٌّلبيض، ذكرى تروّض خيل الجنون
وقلبٌ يحكّ الصّخور لتصقله في نداء الكمنجات... ينقصكم
وتنقصكم حيرةٌ للمسدّس: إن كان لا بدّ من قتلنا
فلا تقتلوا الكائنات الّتي صادقتنا، ولا تقتلوا أمسنا
ستنقصكم هدنةٌ مع أشباحنا في ليإلى الشّتاء العقيمة
وشمسٌ أقلّ اشتعالاً، وبدرٌ أقلّ اكتمالاً، لتبدو الجريمة
أقلّ احتفالاً على شاشة السّينما، فخذوا وقتكم
4
... نعرف ماذا يخبّي هذا الغموض البليغ لنا
سماءٌ تدلّت على ملحنا تسلم الرّوح. صفصافةٌ
تسير على قدم الرّيح، وحشٌ يؤسّس مملكةً في
ثقوب الفضاء الجريح... وبحرٌ يملّح أخشاب أبوابنا،
ولم تكن الأرض أثقل قبل الخليقة، لكنّ شيئًا
كهذا عرفناه قبل الزّمان... ستروي الّرياح لنا
بدايتنا والنّهاية، لكنّنا ننزف اليوم حاضرنا
وندفن أيّامنا في رماد الأساطير، ليست أثينا لنا،
ونعرف أيّامكم من دخان المكان، وليست أثينا لكم،
ونعرف ما هيّأ المعدن - السّيّد اليوم من أجلنا
ومن أجل آلهةٍ لم تدافع عن الملح في خبزنا
ونعرف أنّ الحقيقة أقوى من الحقّ، نعرف أنّ الزّمان
تغيّر، منذ تغيّر نوع السّلاح. فمن سوف يرفع أصواتنا
إلى مطرٍ يابسٍ في الغيوم? ومن يغسل الضّوء من بعدنا
ومن سوف يسكن معبدنا بعدنا? من سيحفظ عاداتنا
من الصّخب المعدنيّ? (نبشّركم بالحضارة) قال الغريب، وقال:
أنا سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم.
فمرّوا أمامي، لأحصيكم جثّةً جثّةً فوق سطح البحيرة
(أبشّركم بالحضارة) قال، لتحيا الأناجيل، قال، فمرّوا
ليبقى لي الرّبّ وحدي، فإنّ هنودًا يموتون خيرٌ
لسيّدنا في العلا من هنودٍ يعيشون، والرّبّ أبيض
وأبيض هذا النّهار: لكم عالمٌ ولنا عالم...
يقول الغريب كلامًا غريبًا، ويحفر في الأرض بئرًا
ليدفن فيها السّماء. يقول الغريب كلامًا غريبًا
ويصطاد أطفالنا والفراش. بماذا وعدت حديقتنا يا غريب?
بوردٍ من الزّنك أجمل من وردنا? فليكن ما تشاء
ولكن، أتعلم أنّ الغزالة لا تأكل العشب إن مسّه دمنا?
أتعلم أنّ الجواميس إخوتنا والنّباتات إخوتنا يا غريب?
فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السّلحفاة الّتي
تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها
وزينتنا زهرها. (هذه الأرض لا موت فيها)، فلا
تغيّر هشاشة تكوينها! لا تكلاّر مرايا بساتينها
ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها
وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها...
سنذهب، عمّا قليلٍ، خذوا دمنا واتركوها
كما هي،
أجمل ما كتب اللّه فوق المياه،
له... ولنا
سنسمع أصوات أسلافنا في الرّياح، ونصغي
إلى نبضهم في براعم أشجارنا. هذه الأرض جدّتنا
مقدّسةٌ كلّها، حجرًا حجرًا، هذه الأرض كوخٌ
لآلهةٍ سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا
ليإلى الصّلاة... مشينا حفاةً لنلمس روح الحصى
وسرنا عراةً لتلبسنا الرّوح، روح الهواء، نساء
يعدن إلينا هبات الطّبيعة - تاريخنا كان تاريخها. كان للوقت
وقتٌ لنولد فيها ونرجع منها إليها: نعيد إلى الأرض أرواحها
رويدًا رويدًا. ونحفظ ذكرى أحبّتنا في الجرار
مع الملح والزّيت، كنّا نعلّق أسماءهم بطيور الجداول
وكنّا الأوائل، لا سقف بين السّماء وزرقة أبوابنا
ولا خيل تأكل أعشاب غزلاننا في الحقول، ولا غرباء
يمرّون في ليل زوجاتنا، فاتركوا النّاي للرّيح تبكي
على شعب هذا المكان الجريح... وتبكي عليكم غدا،
وتبكي عليكم... غدا!
5
ونحن نودّع نيراننا، لا نردّ التّحيّة... لا تكتبوا
علينا وصايا الإله الجديد، إله الحديد، ولا تطلبوا
معاهدةً للسّلام من الميّتين، فلم يبق منهم أحد
يبشّركم بالسّلام مع النّفس والآخرين، وكنّا هنا
نعمّر أكثر، لولا بنادق إنجلترا والنّبيذ الفرنسيّ والإنفلونزا،
وكنّا نعيش كما ينبغي أن نعيش برفقة شعب الغزال
ونحفظ تاريخنا الشّفهيّ، وكنّا نبشّركم بالبراءة والأقحوان
لكم ربّكم ولنا ربّنا، ولكم أمسكم ولنا أمسنا، والزّمان
هو النّهر حين نحدّق في النّهر يغرورق الوقت فينا...
ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا المذبحة?
ألم تولدوا من نساءٍ? ألم ترضعوا مثلنا
حليب الحنين إلى أمّهاتٍ? ألم ترتدوا مثلنا أجنحة
لتلتحقوا بالسّنونو. وكنّا نبشّركم بالرّبيع، فلا تشهروا الأسلحة!
وفي وسعنا أن نتبادل بعض الهدايا وبعض الغناء
هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكلاتناء
يخبّئ أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءًا وماء،
خذوا أرض أمّي بالسّيف، لكنّني لن أوقّع باسمي
معاهدة الصّلح بين القتيل وقاتله، لن أوقّع باسمي
على بيع شبرٍ من الشّوك حول حقول الذّرة
وأعرف أنّي أودّع آخر شمسٍ، وألتفّ باسمي
وأسقط في النّهر، أعرف أنّي أعود إلى قلب أٌمّي
لتدخل، يا سيّد البيض، عصرك... فارفع على جثّتي
تماثيل حرّيّةٍ لا تردّ التّحيّة، واحفر صليب الحديد
على ظلّي الحجريّ، سأصعد عمّا قليلٍ أعإلى النّشيد،
نشيد انتحار الجماعات حين تشيّع تاريخها للبعيد،
وأطلق فيها عصافير أصواتنا: ههنا انتصر الغرباء
على الملح، واختلط البحر في الغيم، وانتصر الغرباء
على قشرة القمح فينا، ومدّوا الأنابيب للبرق والكهرباء
هنا انتحر الصّقر غمًّا، هنا انتصر الغرباء
علينا. ولم يبق شيءٌ لنا في الزّمان الجديد
هنا تتبخّر أجسادنا، غيمةً غيمةً، في الفضاء
هنا تتلألأ أرواحنا، نجمةً نجمةً، في فضاء النّشيد
6
سيمضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثلنا
سنمضي إلى حتفنا، أوّلاً، سندافع عن شجرٍ نرتديه
وعن جرس اللّيل، عن قمرٍ، فوق أكواخنا نشتهيه
وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع
وعن ريشنا في جناح الأغاني الأخيرة. عمّا قليل
تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطّريق
إلى القمر الاصطناعيّ. هذا زمان الصّناعات. هذا
زمان المعادن، من قطعة الفحم تبزغ شمبانيا الأقوياء...
هنالك موتى ومستوطناتٌ، وموتى وبولدوزراتٌ، وموتى
ومستشفياتٌ، وموتى وشاشات رادار ترصد موتى
يموتون أكثر من مرّةٍ فى الحياة، وترصد موتى
يعيشون بعد الممات، وموتى يربّون وحش الحضارات موتًا،
وموتى يموتون كي يحملوا الأرض فوق الرّفات...
إلى أين، يا سيّد البيض، تأخذ شعبي،... وشعبك?
إلى أيّ هاويةٍ يأخذ الأرض هذا الرّوبوت المدجّج بالطّائرات
وحامله الطّائرات، إلى أيّ هاويةٍ رحبةٍ تصعدون?
لكم ما تشاؤون: روما الجديدة، إسبارطة التكنولوجيا
وأيديولوجيا الجنون،
ونحن، سنهرب من زمنٍ لم نهيّئ له، بعد، هاجسنا
سنمضى إلى وطن الطّير سربًا من البشر السّابقين
نطلّ على أرضنا من حصى أرضنا، من ثقوب الغيوم
نطلّ على أرضنا، من كلام النّجوم نطلّ على أرضنا
من هواء البحيرات، من زغب الذّرة الهشّ، من
زهرة القبر، من ورق الحور، من كلّ شيء
يحاصركم، أيّها البيض، موتى يموتون، موتى
يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسّرّ،
فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كلّ الحقيقة،
عنكم
وعنّا...
وعنّا
وعنكم!
7
هنالك موتى ينامون في غرفٍ سوف تبنونها
هنالك موتى يزورون ماضيهم في المكان الّذي تهدمون
هنالك موتى يمرّون فوق الجسور الّتي سوف تبنونها
هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى
يجيئون فجرًا لكي يشربوا شايهم معكم، هادئين
كما تركتهم بنادقكم، فاتركوا يا ضيوف المكان
مقاعد خاليةً للمضيفين.. كي يقرؤوا
عليكم شروط السّلام مع... الميّتين!
البداية
في يدي غيمة
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنّهم أسرجوا الخيل في السهل
... كان المكان معدًّا لمولده: تلّةً
من رياحين أجداده تتلفّت شرقًا وغربًا. وزيتونةً
قرب زيتونةٍ في المصاحف تعلي سطوح اللغة...
ودخانًا من اللازورد يؤثّث هذا النهار لمسألةٍ
لا تخصّ سوى الله. آذار طفل
الشهور المدلّل. آذار يندف قطنًا على شجر
اللوز. آذار يؤلم خبّيزةً لفناء الكنيسة.
آذار أرضٌ لليل السّنونو، ولامرأةٍ
تستعدّ لصرختها في البراري... وتمتدّ في
شجر السنديان.
يولد الآن طفلٌ،
وصرخته،
في شقوق المكان
افترقنا على درج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطرٌ; هل أسأت إلى إخوتي
عندما قلت إني رأيت ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار? لا أتذكّر
أسماءهم. ولا أتذكّر أيضًا طريقتهم في
الكلام... وفي خفّة الطيران
أصدقائي يرفّون ليلاً، ولا يتركون
خلفهم أثرًا. هل أقول لأمّي الحقيقة:
لي إخوةٌ آخرون
إخوةٌ يضعون على شرفتي قمرًا
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطف الآقحوان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في آخر الليل
... سبع سنابل تكفي لمائدة الصيف.
سبع سنابل بين يديّ. وفي كل سنبلةٍ
ينبت الحقل حقلاً من القمح. كان
أبي يسحب الماء من بئره ويقول
له: لا تجفّ. ويأخذني من يدي
لأرى كيف أكبر كالفرفحينة...
أمشي على حافّة البئر: لي قمران
واحدٌ في الأعالي
وآخر في الماء يسبح... لي قمران
واثقين، كأسلافهم، من صواب
الشرائع... سكّوا حديد السيوف
محاريث. لن يصلح السيف ما
أفسد الصّيف - قالوا. وصلّوا
طويلاً. وغنّوا مدائحهم للطبيعة...
لكنهم أسرجوا الخيل،
كي يرقصوا رقصة الخيل،
في فضّة الليل...
تجرحني غيمةٌ في يدي: لا
أريد من الأرض أكثر من
هذه الأرض: رائحة الهال والقشّ
بين أبي والحصان.
في يدي غيمةٌ جرحتني. ولكنني
لا أريد من الشمس أكثر
من حبّة البرتقال وأكثر من
ذهبٍ سال من كلمات الأذان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل
في آخر الليل، وانتظروا
شبحًا طالعًا من شقوق المكان...
البداية
البئر
أختار يومًا غائمًا لأمرّ بالبئر القديمة.
ربّما امتلأت سماءً. ربّما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيّها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة! أرفع الطّيّون
عن حجرٍ: سلامًا أيها الحجر الصغير! لعلّنا
كنّا جناحي طائرٍ ما زال يوجعنا. سلامًا
أيها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي
أبدًا بها! وأقول للسّرو: انتبه ممّا يقول
لك الغبار. لعلّنا كنا هنا وتري كمانٍ
في وليمة حارسات اللازورد. لعلّنا كنّا
ذراعي عاشقٍ...
قد كنت أمشي حذو نفسي: كن قويًّا
يا قريني، وارفع الماضي كقرني ماعزٍ
بيديك، واجلس قرب بئرك. ربّما التفتت
إليك أيائل الوادي ... ولاح الصوت -
صوتك- صورةً حجريّةً للحاضر المكلاور...
لم أكمل زيارتي القصيرة بعد للنسيان...
لم آخذ معي أدوات قلبي كلّها:
جرسي على ريح الصنوبر
سلّمي قرب السماء
كواكبي حول السطوح
وبحّتي من لسعة الملح القديم...
وقلت للذكرى: سلامًا يا كلام الجدّة العفويّ
يأخذنا إلى أيّامنا البيضاء تحت نعاسها...
واسمي يرنّ كليرة الذّهب القديمة عند
باب البئر. أسمع وحشة الأسلاف بين
الميم والواو السحيقة مثل وادٍ غير ذي
زرعٍ. وأخفي ثعلبي الوديّ. أعرف أنني
سأعود حيًّا، بعد ساعاتٍ، من البئر التي
لم ألق فيها يوسفًا أو خوف إخوته
من الأصداء. كن حذرًا! هنا وضعتك
أمّك قرب باب البئر، وانصرفت إلى تعويذةٍ...
فاصنع بنفسك ما تشاء. صنعت وحدي ما
أشاء: كبرت ليلاً في الحكاية بين أضلاع
المثلّث: مصر، سوريّا، وبابل. ههنا
وحدي كبرت بلا إلهاتٍ الزراعة.
[كنّ يغسلن الحصى في غابة الزيتون. كنّ مبلّلاتٍ بالندى]...
ورأيت أنّي قد سقطت
عليّ من سفر القوافل، قرب أفعى. لم
أجد أحدًا لأكمله سوى شبحي. رمتني
الأرض خارج أرضها، واسمي يرنّ على خطاي
كحذوة الفرس: اقترب ... لأعود من هذا
الفراغ إليك يا جلجامش الأبديّ في اسمك!..
كن أخي! واذهب معي لنصيح بالبئر
القديمة... ربما امتلأت كأنثى بالسماء،
وربّما فاضت عن المعنى وعمّا سوف
يحدث في انتظار ولادتي من بئري الأولى!
سنشرب حفنةً من مائها،
سنقول للموتى حواليها: سلامًا
أيها الأحياء في ماء الفراش،
وأيّها الموتى، سلامًا! .
البداية
تعاليم حورية
فكّرت يومًا بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على يدها ونام.
وكان يكفي أن أداعب غصن داليةٍ على عجلٍ...
لتدرك أنّ كأس نبيذي امتلأت.
ويكفي أن أنام مبكّرًا لترى منامي واضحًا،
فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفي أن تجيء رسالةٌ منّي لتعرف أنّ عنواني تغيّر،
فوق قارعة السجون، وأنّ
أيّامي تحوّم حولها... وحيالها
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ.
تبحث في ثيابي الداخليّة عن نساءٍ أجنبيّاتٍ،
وترفو جوريي المقطوع.
لم أكبر على يدها كما شئنا:
أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرّخام... ولوّحت سحبٌ لنا،
ولماعزٍ يرث المكان.
وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دارجةً... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى،
وفصحى... كي أفسّر للظلال ظلالها!
ما زلت حيًّا في خضمّك.
لم تقولي ما تقول الأمّ للولد المريض.
مرضت من قمر النحاس على خيام البدو.
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز [كان الخبز قمحيًّا].
ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس.
حطّتني على كتفيك رائحة الندى.
يا ظبيةً فقدت هناك كناسها وغزالها...
لا وقت حولك للكلام العاطفيّ.
عجنت بالحبق الظهيرة كلّها.
وخبزت للسّمّاق عرف الديك.
أعرف ما يخرّب قلبك المثقوب بالطاووس،
منذ طردت ثانيةً من الفردوس.
عالمنا تغيّر كلّه، فتغيّرت أصواتنا.
حتّى التحيّة بيننا وقعت كزرّ الثوب فوق الرمل،
لم تسمع صدًى.
قولي: صباح الخير!
قولي أيّ شيء لي لتمنحني الحياة دلالها.
هي أخت هاجر.
أختها من أمّها.
تبكي مع النايات موتى لم يموتوا.
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تنفتح السماء،
ولا ترى الصحراء خلف أصابعي لترى حديقتها على وجه السراب،
فيركض الزّمن القديم
بها إلى عبثٍ ضروريٍّ:
أبوها طار مثل الشركلايّ على حصان العرس.
أمّا أمّها فلقد أعدّت،
دون أن تبكي، لزوجة زوجها حنّاءها،
وتفحّصت خلخالها...
لا نلتقي إلاّ وداعًا عند مفترق الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ.
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي.
ولا تصدّق ذكرياتك دائمًا.
لا تحترق لتضيء أمّك، تلك مهنتها الجميلة.
لا تحنّ إلى مواعيد الندى.
كن واقعيًّا كالسماء.
ولا تحنّ إلى عباءة جدّك السوداء،
أو رشوات جدّتك الكثيرة،
وانطلق كالمهر في الدنيا. وكن من أنت حيث تكون.
واحمل عبء قلبك وحده...
وارجع إذا اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي،
وترمي، في قصيدتي الأخيرة، شالها! .
البداية
ليل يفيض من الجسد
ياسمينٌ على ليل تمّوز، أغنيّةٌ
لغريبين يلتقيان على شارعٍ
لا يؤدّي إلى هدفٍ ...
من أنا بعد عينين لوزيّتين? يقول الغريب
من أنا بعد منفاك فيّ? تقول الغريبة.
إذن، حسنًا، فلنكن حذرين لئلا
نحرّك ملح البحار القديمة في جسدٍ يتذكّر...
كانت تعيد له جسدًا ساخنًا،
ويعيد لها جسدًا ساخنًا.
هكذا يترك العاشقان الغريبان حبّهما فوضويًّا،
كما يتركان ثيابهما الداخليّة بين زهور الملاءات...
- إن كنت حقًا حبيبي، فألّف
نشيد أناشيد لي، واحفر اسمي
على جذع رمّانةٍ في حدائق بابل...
- إن كنت حقًا تحبّينني، فضعي
حلمي في يديّ. وقولي له، لابن مريم،
كيف فعلت بنا ما فعلت بنفسك،
يا سيّدي? هل لدينا من العدل ما سوف
يكفي ليجعلنا عادلين غدًا?
- كيف أشفى من الياسمين غدًا?
- كيف أشفى من الياسمين غدًا?
يعتمان معًا في ظلالٍ تشعّ على
سقف غرفته: لا تكن معتمًا
بعد نهديّ - قالت له ...
قال: نهداك ليلٌ يضيء الضروريّ
نهداك ليلٌ يقبّلني. وامتلأنا أنا
والمكان بليلٍ يفيض من الكأس ...
تضحك من وصفه. ثم تضحك أكثر
حين تخبّئ منحدر الليل في يدها...
- يا حبيبي، لو كان لي
أن أكون صبيًّا... لكنتك أنت
- ولو كان لي أن أكون فتاةً
لكنتك أنت!...
وتبكي، كعادتها، عند عودتها
من سماءٍ نبيذيّة اللون: خذني
إلى بلدٍ ليس لي طائرٌ أزرقٌ
فوق صفصافة يا غريب!
وتبكي، لتقطع غاباتها في الرحيل
الطويل إلى ذاتها: من أنا?
من أنا بعد منفاك في جسدي?
آه منّي، ومنك، ومن بلدي
- من أنا بعد عينين لوزيّتين?
أريني غدي!...
هكذا يترك العاشقان وداعهما
فوضويًّا، كرائحة الياسمين على ليل تمّوز...
في كلّ تمّوز يحملني الياسمين إلى
شارع، لا يؤدّي إلى هدفٍ،
بيد أني أتابع أغنيّتي:
ياسمينٌ على ليل تمّوز......
البداية
عندما يبتعد
للعدوّ الذي يشرب الشاي في كوخنا فرسٌ في الدخان.
وبنتٌ لها حاجبان كثيفان.
عينان بنّيتان.
وشعرٌ طويلٌ كليل الأغاني على الكتفين.
وصورتها لا تفارقه كلّما جاءنا يطلب الشاي.
لكنّه لا يحدّثنا عن مشاغلها في المساء،
وعن فرسٍ تركته الأغاني على قمّة التلّ...
... في كوخنا يستريح العدوّ من البندقيّة،
يتركها فوق كرسيّ جدّي.
ويأكل من خبزنا مثلما يفعل الضيف.
يغفو قليلاً على مقعد الخيزران.
ويحنو على فرو قطّتنا.
ويقول لنا دائمًا:
لا تلومو الضحيّة!
نسأله: من هي?
فيقول: دمٌ لا يجفّفه الليل.../
... تلمع أزرار سترته عندما يبتعد
عم مساءً! وسلّم على بئرنا
وعلى جهة التين. وامش الهوينى على
ظلّنا في حقول الشعير. وسلّم على سرونا
في الأعالي. ولا تنس بوّابة البيت مفتوحةً
في الليالي. ولا تنس خوف الحصان من الطائرات،
وسلّم علينا، هناك إذا اتّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول على الباب... يسمعه جيّدًا
جيّدًا، ويخبّئه في السّعال السريع
ويلقي به جانبًا.
فلماذا يزور الضحيّة كلّ مساءٍ?
ويحفظ أمثالنا مثلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدّس?
لولا المسدس
لاختلط الناي في الناي ...
... لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها!
فلنكن طيّبين إذًا. كان يسألنا أن نكون هنا طيّبين.
ويقرأ شعرًا لطيّار (ييتس):
أنا لا أحبّ الذين أدافع عنهم،
كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيّ،
ويمشي ثمانين مترًا إلى
بيتنا الحجريّ هناك على طرف السّهل.../
سلّم على بيتنا يا غريب.
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها.
هل تشمّ أصابعنا فوقها?
هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحبًا غائبًا،
يتمنّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سرّه:
كيف كانت تتابع من بعده عمره
بدلاً منه? سلّم عليها
إذا اتّسع الوقت...
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا،
ويخبّئه في سعالٍ سريع،
ويلقى به جانبًا، ثم تلمع
أزرار سترته، عندما يبتعد...
البداية
يحبونني ميتا
يحبّونني ميّتًا
ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا.
سمعت الخطى ذاتها.
منذ عشرين عامًا تدقّ على حائط اللّيل.
تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن.
يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ.
ألا تشربون نبيذًا?
سألت. سنشرب.
قالوا. متى تطلقون الرّصاص عليّ?
سألت. أجابوا: تمهّل!
وصفّوا الكؤوس وراحوا يغنّون للشّعب،
قلت: متى تبدأون اغتيالي?
فقالوا: ابتدأنا... لماذا بعثت إلى الرّوح أحذيةً!
كي تسير على الأرض.
قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء
والأرض سوداء جدًّا.
أجبت: لأنّ ثلاثين بحرًا تصبّ بقلبي.
فقالوا: لماذا تحبّ النّبيذ الفرنسيّ?
قلت: لأنّي جديرٌ بأجمل امرأةٍ.
كيف تطلب موتك?
أزرق مثل نجومٍ تسيل من السّقف
- هل تطلبون المزيد من الخمر?
قالوا: سنشرب.
قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين،
أن تقتلوني رويدًا رويدًا لأكتب شعرًا أخيرًا لزوجة قلبي.
ولكنّهم يضحكون ولا يسرقون من البيت
غير الكلام الذي سأقول لزوجة قلبي..
البداية
تصبحون على وطن
عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو
وأحرسهم من هواة الرّثاء
أقول لهم :
تصبحون على وطن،
من سحابٍ ومن شجرٍ،
من سراب وماء
أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل
ومن قيمة المذبح الفائضة
وأسرق وقتا لكي يسرقوني من الوقت.
هل كلنا شهداء؟
وأهمس :
يا أصدقائي اتركوا حائطا واحداً،
لحبال الغسيل،
اتركوا ليلةً للغناء
اعلّق أسماءكم أين شئتم فناموا قليلاً،
وناموا على سلم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم
وانقلاب الكتاب على الأنبياء
وكونوا نشيد الذي لا نشيد له
عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء
أقول لكم :
تصبحون على وطنٍ
حمّلوه على فرس راكضه
وأهمس :
يا أصدقائي لن تصبحوا مثلنا ...
حبل مشنقةٍ غامضه !
البداية
سلام عليك
لديني ... لديني لأعرف في أي أرضٍ أموت
وفي أي أرضٍ سأبعث حيا
سلامٌ عليك وأنت تعدّين نار الصّباح،
سلامٌ عليك...سلامٌ عليك.
أما آن لي أن أقدّم بعض الهدايا إليك
أما آن لي أن أعود إليك؟
لديني لأشرب منك حليب البلاد
وأبقى صبياً على ساعديك
وأبقى صبياً إلى أبد الآبدين.
أما آن لي أن أقدّم بعض الهدايا إليك
أما آن لي أن أعود إليك؟
أمي! أضعت يد يّا على خصر امرأةٍ من سراب
أعانق رملاً أعانق ظلاً
رأيت كثيراً يا أمي رأيت
لديني لأبقى على راحتيك
آه، يا أمي
أحنّ إلى خبز صوتك أمّي!
أحنّ إليك يا أمّي
أحنّ إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي...
وتكبر فيّ الطفولة يوماً على صدر يومٍٍ
وأعشق عمري لأني إذا متّ
أخجل من دمع أمي!
البداية
أنا يوسف يا أبي
أنا يوسفٌ يا أبي.
يا أبي، إخوتي لا يحبّونني،
لا يريدونني بينهم يا أبي.
يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام.
يريدونني أن أموت لكي يمدحوني.
وهم أوصدوا باب بيتك دوني.
وهم طردوني من الحقل.
هم سمّموا عنبي يا أبي.
وهم حطّموا لعبي يا أبي.
حين مرّ النّسيم ولاعب شعري
غاروا وثاروا عليّ وثاروا عليك،
فماذا صنعت لهم يا أبي?
الفراشات حطّت على كتفيّ،
ومالت عليّ السّنابل،
والطّير حطّت على راحتيّ.
فماذا فعلت أنا يا أبي،
ولماذا أنا?
أنت سمّيتني يوسفًا،
وهمو أوقعوني في الجبّ، واتّهموا الذّئب;
والذّئب أرحم من إخوتي..
أبت! هل جنيت على أحدٍ عندما قلت إنّي:
رأيت أحد عشر كوكبًا، والشّمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين? .
البداية
مطار أثينا
مطار أثينا يوزّعنا للمطارات.
قال المقاتل: أين أقاتل?
صاحت به حاملٌ: أين أهديك طفلك?
قال الموظّف: أين أوظّف مالي?
فقال المثقّف: مالي ومالك?
قال رجال الجمارك: من أين جئتم?
أجبنا: من البحر.
قالوا: إلى أين تمضون?
قلنا: إلى البحر.
قالوا: وأين عناوينكم?
قالت امرأةٌ من جماعتنا: بقجتي قريتي.
في مطار أثينا انتظرنا سنينا.
تزوّج شابٌّ فتاةً ولم يجدا غرفةً للزّواج السّريع.
تساءل: أين أفضّ بكارتها?
فضحكنا وقلنا له: يا فتىً، لا مكان لهذا السّؤال.
وقال المحلّل فينا: يموتون من أجل ألاّ يموتوا.
يموتون سهوًا.
وقال الأديب: مخيّمنا ساقطٌ لا محالة.
ماذا يريدون منّا?
وكان مطار أثينا يغيّر سكّانه كلّ يومٍ.
ونحن بقينا مقاعد فوق المقاعد ننتظر البحر،
كم سنةً يا مطار أثينا!...
البداية
موسيقى عربية
( ليت الفتى حجرٌ )
يا ليتني حجر...
أكلّما شردت عينان
شرّدني
هذا السحاب سحابًا
كلّما خمشت عصفورةٌ أفقًا
فتّشت عن وثن?
أكلّما لمعت جيتارةٌ
خضعت
روحي لمصرعها في رغوة السّفن
أكلّما وجدت أنثى أنوثتها
أضاءني البرق من خصري
وأحرقني!
أكلّما ذبلت خبّيزةٌ
وبكى طيرٌ على فنن
أصابني مرضٌ
أو صحت: يا وطني!
أكلّما نوّر اللوز اشتعلت به
وكلما احترقا
كنت الدخان ومنديلاً
تمزقني
ريح الشمال، ويمحو وجهي المطر?
ليت الفتى حجرٌ
يا ليتني حجر...
البداية
لحن غجري
شارعٌ واضحٌ
وبنت
خرجت تشعل القمر
وبلادٌ بعيدةٌ
وبلادٌ بلا أثر ...
حلمٌ مالحٌ
وصوت
يحفر الخصر في الحجر
اذهبي يا حبيبتي
فوق رمشي ... أو الوتر
قمرٌ جارحٌ
وصمت
يكلار الريح والمطر
يجعل النهر إبرةً
في يدٍ تنسج الشجر
حائطٌ سابحٌ
وبيت
يختفي كلّما ظهر
ربّما يقتلوننا
أو ينامون في الممرّ ...
زمنٌ فاضحٌ
وموت
يشتهينا إذا عبر
انتهى الآن كلًّ شيء
واقتربنا من النهر
انتهت رحلة الغجر
وتعبنا من السفر
شارعٌ واضحٌ
وبنت
خرجت تلصق الصور
فوق جدران جثّتي ...
وخيامي بعيدة
وخيامٌ بلا أثر ..
محمّد،
يعشّش في حضن والده طائراً خائفاً
من جحيم السماء: احمني يا أبي
من الطيران إلى فوق! إنّ جناحي
صغيرٌ على الريح... والضوء أسود
محمّد،
يريد الرجوع إلى البيت، من
دون درّاجة... أو قميصٍ جديد
يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ...
إلى دفتر الصرف والنحو: خذني
إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي
وأكمل عمري رويداً رويداً...
على شاطئ البحر، تحت النخيل
ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد
محمّد،
يواجه جيشاً، بلا حجرٍ أو شظايا
كواكب، لم ينتبه للجدار ليكتب:
"حريتي لن تموت".
فليست له، بعد، حريّة
ليدافع عنها. ولا أفقٌ لحمامة بابلو بيكاسو.
وما زال يولد، ما زال
يولد في اسمٍ يحمّله لعنة الاسم. كم
مرةً سوف يولد من نفسه ولداً
ناقصاً بلداً... ناقصاً موعداً للطفولة؟
أين سيحلم لو جاءه الحلم...
والأرض جرح... ومعبد؟
محمّد،
يرى موته قادماً لا محالة. لكنّه
يتذكر فهداً رآه على شاشة التلفزيون،
فهداً قوياً يحاصر ظبياً رضيعاً.
وحين
دنا منه شمّ الحليب،
فلم يفترسه.
كأنّ الحليب يروّض وحش الفلاة.
إذن، سوف أنجو - يقول الصبيّ -
ويبكي: فإنّ حياتي هناك مخبأة
في خزانة أمي، سأنجو... واشهد.
محمّد،
ملاكٌ فقيرٌ على قاب قوسين من
بندقية صيّادة البارد الدم.
من
ساعةٍ ترصد الكاميرا حركات الصبي
الذي يتوحّد في ظلّه
وجهه، كالضحى، واضح
قلبه، مثل تفاحة، واضح
وأصابعه العشر، كالشمع، واضحة
والندى فوق سرواله واضح...
كان في وسع صيّادٍهٍ أن يفكّر بالأمر
ثانيةً، ويقول : سـأتركه ريثما يتهجّى
فلسطينه دون ما خطأ...
سوف أتركه الآن رهن ضميري
وأقتله، في غدٍ، عندما يتمرّد!
محمّد،
يسوع صغير ينام ويحلم في
قلب أيقونةٍ
صنعت من نحاس
ومن غصن زيتونة
ومن روح شعب تجدّد
محمّد،
دمٌ زاد عن حاجة الأنبياء
إلى ما يريدون، فاصعد
إلى سدرة المنتهى
يا محمّد!
البداية
شتاء ريتا
ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ
وهذه الأزهار أكبر من سريري
فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل
ضع ههنا قمراً على الكرسيّ
ضع فوق البحيرة
حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى
هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ
لتجهش كلما التفّت على جذعي فروعك ؟
حكّ لي قدمي وحكّ دمي لنعرف ما
تخلفه العواصف والسّيول
منّي ومنك ...
تنام ريتا في حديقة جسمها
توت السياج على أظافرها يضيء
الملح في جسدي . أ حبّك .
نام عصفوران تحت يديّ...
نامت موجة القمح النبيل على تنفسها البطيء
و وردة حمراء نامت في الممر
ونام ليل لا يطول
والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا
يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري
فنامي بيني وبينك
لا تغطي عتمة الذهب العميقة بيننا
نامي يداً حول الصدى
ويداً تبعثر عزلة الغابات
نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون
نامي فرساً على رايات ليلة عرسها ...
هدأ الصهيل
هدأت خلايا النحل في دمنا
فهل كانت هنا ريتا
وهل كنا معا ؟
... ريتا سترحل بعد ساعاتٍ وتترك ظلها
زنزانةٌ بيضاء . أين سنلتقي ؟
سألت يديها ، فالتفتّ إلى البعيد
البحر خلف الباب ، والصحراء خلف البحر
قبلني على شفتي قالت .
قلت : يا ريتا أأرحل من جديد
مادام لي عنبٌ وذاكرةٌ ، وتتركني الفصول
بين الإشارة والعبارة هاجسا ً ؟
ماذا تقول ؟
لا شيء يا ريتا ، أقلد فارساً في أغنية
عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا ...
عنّي ؟
وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان
فواحدٌ يستل سكيناً وآخر يودع الناي الوصايا
لا أدرك المعنى ، تقول
و لا أنا ، لغتي شظايا
كغياب إمرأةٍ عن المعنى ،
وتنتحر الخيول في آخر الميدان ...
ريتا تحتسي شاي الصباح
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنت أنت ؟
أنا هو
هو من رآك غزالةً ترمي لآلئها عليه
هو من رأى شهواته تجري وراءك كالغدير
هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير
وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء
يأخذنا الرحيل في ريحه ورقاً
أمام فنادق الغرباء
مثل رسائلٍ قرئت على عجل
أتأخذني معك ؟
فأكون خاتم قلبك الحافي ، أتأخذني معك
فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك ... لتصرعك
وأكون تابوتا من النعناع يحمل مصرعك
وتكون لي حياً وميتاً
ضاع يا ريتا الدليل
والحب مثل الموت وعدٌ لا يرد .. ولا يزول
... ريتا تعدّ لي النهار
حجلاً تجمع حول كعب حذائها العالي :
صباح الخير يا ريتا
وغيماً أزرقاً للياسمينة تحت إبطيها :
صباح الخير يا ريتا
وفاكهةً لضوء الفجر: يا ريتا صباح الخير
يا ريتا أعيديني إلى جسدي لتهدأ لحظةً
إبر الصنوبر في دمي المهجور بعدك .
كلما عانقت برج العاج فرت من يديّ يمامتان ..
قالت : سأرجع عندما تتبدل الأيام والأحلام
يا ريتا طويل هذا الشتاء ، ونحن نحن
فلا تقولي ما أقول أنا هي
هي من رأتك معلقاً فوق السياج ، فأنزلتك وضمدتك
وبدمعها غسلتك ، انتشرت بسوسنها عليك
ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها وأنا هي
هل أنت أنت ؟
.. تقوم ريتا عن ركبتي
تزور زينتها ، وتربط شعرها بفراشةٍ فضيةٍ .
ذيل الحصان يداعب النمش المبعثر
كرذاذ ضوءٍ فوق الرخام الأنثوي
تعيد ريتا زر القميص إلى القميص الخردلي ... أأنت لي ؟
لك ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيّ ،
لي ماضٍ أراه الآن يولد في غيابك
من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب
لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة
لي رغوة الصابون
والعسل المملح
والندى
والزنجبيل
ولك الأيائل ،إن أردت ، لك الأيائل والسهول
ولك الأغاني ،إن أردت، لك الأغاني والذهول
إني ولدت لكي أحبك
فرساً ترقّص غابةً ، وتشق في المرجان غيابك
وولدت سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك
خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك
إني ولدت لكي أحبك
وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك
ووجدت حراس المدينة يطعمون النار حبك
وإني ولدت لكي أحبك
ريتا تكلار جوز أيامي ، فتتسع الحقول
لي هذه الأرض الصغيرة في غرفة في شارعٍ
في الطابق الأرضي من مبنى على جبلٍ
يطل على هواء البحر . لي قمرٌ نبيذيٌ ولي حجر صقيل
لي حصة من مشهد الموج المسافر في الغيوم ، وحصة
من سفر تكوين البداية و سفر أيوب ، ومن عيد الحصاد
وحصة مما ملكت ، وحصة من خبز أمي
لي حصة من سوسن الوديان في أشعار عشاق قدامى
لي حصة من حكمة العشاق : يعشق وجه قاتله القتيل
لو تعبرين النهر يا ريتا
وأين النهر ، قالت ...
قلت فيك وفيّ نهرٌ واحد
وأنا أسيل دماً وذاكرةً أسيل
لم يترك الحراس لي باباً لأدخل فاتكأت على الأفق
ونظرت تحت
نظرت فوق
نظرت حول
فلم أجد
أفقاً لأنظر ، لم أجد في الضوء إلا نظرتي
ترتد نحوي . قلت عودي مرةً أخرى إلي ، فقد أرى
أحداً يحاول أن يرى أفقاً يرممه رسول
برسالة من لفظتين صغيرتين : أنا ، وأنت
فرحٌ صغيرٌ في سريرٍ ضيقٍ ... فرحٌ ضئيل
لم يقتلونا بعد ، يا ريتا ، ويا ريتا .. ثقيل
هذا الشتاء وبارد
... ريتا تغني وحدها
لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركت أمي وحدها
قرب البحيرة وحدها ، تبكي طفولتي البعيدة بعدها
في كل أمسية تنام ضفيرتي الصغيرة عندها
أمي ، كلارت طفولتي وخرجت إمرأةً تربّي نهدها
بفم الحبيب . تدور ريتا حول ريتا وحدها :
لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى
في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول
عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل
لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول
وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة
تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟
خذني إلى أرض البعيدة
خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء
وكلارت خزف النهار على حديد النافذة
وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة
ورمت جواربها على الكرسي فانكلار الهديل
ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل
البداية
خطبة الهندي الأحمر
(هل قلت موتى?
لا موت هناك
هناك فقط تبديل عوالم)
سياتل زعيم دواميش
1
إذًا، نحن من نحن في المسيسبّي. لنا ما تبقّى لنا من الأمس
لكنّ لون السّماء تغيّر، والبحر شرقًا
تغيّر، يا سيّد البيض! يا سيّد الخيل، ماذا تريد
من الذّاهبين إلى شجر اللّيل?
عاليةٌ روحنا، والمراعي مقدّسةٌ، والنّجوم
كلامٌ يضيء... إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلّها:
ولدنا هنا بين ماءٍ ونارٍ... ونولد ثانيةً في الغيوم
على حافّة السّاحل اللاّزورديّ بعد القيامة... عمّا قليل
فلا تقتل العشب آكثر، للعشب روحٌ يدافع فينا
عن الرّوح في الأرض /
يا سيّد الخيل! علّم حصانك أن يعتذر
لروح الطّبيعة عمّا صنعت بأشجارنا:
آه! يا أختي الشّجرة
لقد عذّبوك كما عذّبوني
فلا تطلبي المغفرة
لحطّاب أمّي وأمّك...
2
... لن يفهم السّيّد الأبيض الكلمات العتيقه
هنا، في النّفوس الطّليقة بين السّماء وبين الشّجر...
فمن حقّ كولومبوس الحرّ أن يجد الهند في أيّ بحر،
ومن حقّه أن يسمّي أشباحنا فلفلاً أو هنودا،
وفي وسعه أن يكلاّر بوصلة البحر كي تستقيم
وأخطاء ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ البشر
سواسيّةٌ كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!
وأنّهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة، لكنّهم يعبدون
إله الطّبيعة في كلّ شيءٍ... ولا يعبدون الذّهب...
وكولومبوس الحرّ يبحث عن لغةٍ لم يجدها هنا،
وعن ذهبٍ في جماجم أجدادنا الطّيّبين وكان له
ما يريد من الحيّ والميت فينا. إذًا
لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنّهاية?
ولم يبق منّا سوى زينةٍ للخراب، وريشٍ خفيفٍ على
ثياب البحيرات. سبعون مليون قلبٍ فقأت... سيكفي
ويكفي، لترجع من موتنا ملكًا فوق عرش الزمان الجديد...
أما آن أن نلتقي، يا غريب، غريبين في زمنٍ واحدٍ?
وفي بلدٍ واحدٍ، مثلما يلتقي الغرباء على هاوية?
لنا ما لنا... ولنا ما لكم من سماء
لكم ما لكم... ولكم ما لنا من هواءٍ وماء
لنا ما لنا من حصًى... ولكم ما لكم من حديد
تعال لنقتسم الضّوء في قوّة الظّلّ، خذ ما تريد
من اللّيل، واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك
من اللّيل، واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك
وخذ ما تريد من البحر، واترك لنا موجتين لصيد السّمك
وخذ ذهب الأرض والشّمس، واترك لنا أرض أسمائنا
وعد، يا غريب، إلى الأهل... وابحث عن الهند /
3
... أسماؤنا شجرٌ من كلام الإله، وطيرٌ تحلّق أعلى
من البندقيّة. لا تقطعوا شجر الاسم يا أيّها القادمون
من البحر حربًا، ولا تنفثوا خيلكم لهبًا في السّهول
لكم ربّكم ولنا ربّنا، ولكم دينكم ولنا ديننا
فلا تدفنوا اللّه في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا
كما تدّعون، ولا تجعلوا ربّكم حاجبًا في بلاط الملك!
خذوا ورد أحلامنا كي تروا ما نرى من فرح!
وناموا على ظلّ صفصافنا كي تطيروا يمامًا يماما...
كما طار أسلافنا الطيّبون وعادوا سلامًا سلاما.
ستنقصكم، أيّها البيض، ذكرى الرّحيل عن الأبيض المتوسّط،
وتنقصكم عزلة الأبديّة في غابةٍ لا تطلّ على الهاوية
وتنقصكم حكمة الانكسارات، تنقصكم نكلاةٌ في الحروب
وتنقصكم صخرةٌ لا تطيع تدفّق نهر الزّمان السّريع
ستنقصكم ساعةٌ للتّأمّل في أيّ شيءٍ، لتنضج فيكم
سماءً ضروريّةً للتّراب، ستنقصكم ساعةٌ للتّردّد ما بين دربٍ
ودربٍ، سينقصكم يوربيدوس يومًا، وأشعار كنعان والبابليّين،
تنقصكم
أغاني سليمان عن شولميت، سينقصكم سوسنٌ للحنين
ستنقصكم، أيّها اٌّلبيض، ذكرى تروّض خيل الجنون
وقلبٌ يحكّ الصّخور لتصقله في نداء الكمنجات... ينقصكم
وتنقصكم حيرةٌ للمسدّس: إن كان لا بدّ من قتلنا
فلا تقتلوا الكائنات الّتي صادقتنا، ولا تقتلوا أمسنا
ستنقصكم هدنةٌ مع أشباحنا في ليإلى الشّتاء العقيمة
وشمسٌ أقلّ اشتعالاً، وبدرٌ أقلّ اكتمالاً، لتبدو الجريمة
أقلّ احتفالاً على شاشة السّينما، فخذوا وقتكم
4
... نعرف ماذا يخبّي هذا الغموض البليغ لنا
سماءٌ تدلّت على ملحنا تسلم الرّوح. صفصافةٌ
تسير على قدم الرّيح، وحشٌ يؤسّس مملكةً في
ثقوب الفضاء الجريح... وبحرٌ يملّح أخشاب أبوابنا،
ولم تكن الأرض أثقل قبل الخليقة، لكنّ شيئًا
كهذا عرفناه قبل الزّمان... ستروي الّرياح لنا
بدايتنا والنّهاية، لكنّنا ننزف اليوم حاضرنا
وندفن أيّامنا في رماد الأساطير، ليست أثينا لنا،
ونعرف أيّامكم من دخان المكان، وليست أثينا لكم،
ونعرف ما هيّأ المعدن - السّيّد اليوم من أجلنا
ومن أجل آلهةٍ لم تدافع عن الملح في خبزنا
ونعرف أنّ الحقيقة أقوى من الحقّ، نعرف أنّ الزّمان
تغيّر، منذ تغيّر نوع السّلاح. فمن سوف يرفع أصواتنا
إلى مطرٍ يابسٍ في الغيوم? ومن يغسل الضّوء من بعدنا
ومن سوف يسكن معبدنا بعدنا? من سيحفظ عاداتنا
من الصّخب المعدنيّ? (نبشّركم بالحضارة) قال الغريب، وقال:
أنا سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم.
فمرّوا أمامي، لأحصيكم جثّةً جثّةً فوق سطح البحيرة
(أبشّركم بالحضارة) قال، لتحيا الأناجيل، قال، فمرّوا
ليبقى لي الرّبّ وحدي، فإنّ هنودًا يموتون خيرٌ
لسيّدنا في العلا من هنودٍ يعيشون، والرّبّ أبيض
وأبيض هذا النّهار: لكم عالمٌ ولنا عالم...
يقول الغريب كلامًا غريبًا، ويحفر في الأرض بئرًا
ليدفن فيها السّماء. يقول الغريب كلامًا غريبًا
ويصطاد أطفالنا والفراش. بماذا وعدت حديقتنا يا غريب?
بوردٍ من الزّنك أجمل من وردنا? فليكن ما تشاء
ولكن، أتعلم أنّ الغزالة لا تأكل العشب إن مسّه دمنا?
أتعلم أنّ الجواميس إخوتنا والنّباتات إخوتنا يا غريب?
فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السّلحفاة الّتي
تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها
وزينتنا زهرها. (هذه الأرض لا موت فيها)، فلا
تغيّر هشاشة تكوينها! لا تكلاّر مرايا بساتينها
ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها
وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها...
سنذهب، عمّا قليلٍ، خذوا دمنا واتركوها
كما هي،
أجمل ما كتب اللّه فوق المياه،
له... ولنا
سنسمع أصوات أسلافنا في الرّياح، ونصغي
إلى نبضهم في براعم أشجارنا. هذه الأرض جدّتنا
مقدّسةٌ كلّها، حجرًا حجرًا، هذه الأرض كوخٌ
لآلهةٍ سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا
ليإلى الصّلاة... مشينا حفاةً لنلمس روح الحصى
وسرنا عراةً لتلبسنا الرّوح، روح الهواء، نساء
يعدن إلينا هبات الطّبيعة - تاريخنا كان تاريخها. كان للوقت
وقتٌ لنولد فيها ونرجع منها إليها: نعيد إلى الأرض أرواحها
رويدًا رويدًا. ونحفظ ذكرى أحبّتنا في الجرار
مع الملح والزّيت، كنّا نعلّق أسماءهم بطيور الجداول
وكنّا الأوائل، لا سقف بين السّماء وزرقة أبوابنا
ولا خيل تأكل أعشاب غزلاننا في الحقول، ولا غرباء
يمرّون في ليل زوجاتنا، فاتركوا النّاي للرّيح تبكي
على شعب هذا المكان الجريح... وتبكي عليكم غدا،
وتبكي عليكم... غدا!
5
ونحن نودّع نيراننا، لا نردّ التّحيّة... لا تكتبوا
علينا وصايا الإله الجديد، إله الحديد، ولا تطلبوا
معاهدةً للسّلام من الميّتين، فلم يبق منهم أحد
يبشّركم بالسّلام مع النّفس والآخرين، وكنّا هنا
نعمّر أكثر، لولا بنادق إنجلترا والنّبيذ الفرنسيّ والإنفلونزا،
وكنّا نعيش كما ينبغي أن نعيش برفقة شعب الغزال
ونحفظ تاريخنا الشّفهيّ، وكنّا نبشّركم بالبراءة والأقحوان
لكم ربّكم ولنا ربّنا، ولكم أمسكم ولنا أمسنا، والزّمان
هو النّهر حين نحدّق في النّهر يغرورق الوقت فينا...
ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا المذبحة?
ألم تولدوا من نساءٍ? ألم ترضعوا مثلنا
حليب الحنين إلى أمّهاتٍ? ألم ترتدوا مثلنا أجنحة
لتلتحقوا بالسّنونو. وكنّا نبشّركم بالرّبيع، فلا تشهروا الأسلحة!
وفي وسعنا أن نتبادل بعض الهدايا وبعض الغناء
هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكلاتناء
يخبّئ أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءًا وماء،
خذوا أرض أمّي بالسّيف، لكنّني لن أوقّع باسمي
معاهدة الصّلح بين القتيل وقاتله، لن أوقّع باسمي
على بيع شبرٍ من الشّوك حول حقول الذّرة
وأعرف أنّي أودّع آخر شمسٍ، وألتفّ باسمي
وأسقط في النّهر، أعرف أنّي أعود إلى قلب أٌمّي
لتدخل، يا سيّد البيض، عصرك... فارفع على جثّتي
تماثيل حرّيّةٍ لا تردّ التّحيّة، واحفر صليب الحديد
على ظلّي الحجريّ، سأصعد عمّا قليلٍ أعإلى النّشيد،
نشيد انتحار الجماعات حين تشيّع تاريخها للبعيد،
وأطلق فيها عصافير أصواتنا: ههنا انتصر الغرباء
على الملح، واختلط البحر في الغيم، وانتصر الغرباء
على قشرة القمح فينا، ومدّوا الأنابيب للبرق والكهرباء
هنا انتحر الصّقر غمًّا، هنا انتصر الغرباء
علينا. ولم يبق شيءٌ لنا في الزّمان الجديد
هنا تتبخّر أجسادنا، غيمةً غيمةً، في الفضاء
هنا تتلألأ أرواحنا، نجمةً نجمةً، في فضاء النّشيد
6
سيمضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثلنا
سنمضي إلى حتفنا، أوّلاً، سندافع عن شجرٍ نرتديه
وعن جرس اللّيل، عن قمرٍ، فوق أكواخنا نشتهيه
وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع
وعن ريشنا في جناح الأغاني الأخيرة. عمّا قليل
تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطّريق
إلى القمر الاصطناعيّ. هذا زمان الصّناعات. هذا
زمان المعادن، من قطعة الفحم تبزغ شمبانيا الأقوياء...
هنالك موتى ومستوطناتٌ، وموتى وبولدوزراتٌ، وموتى
ومستشفياتٌ، وموتى وشاشات رادار ترصد موتى
يموتون أكثر من مرّةٍ فى الحياة، وترصد موتى
يعيشون بعد الممات، وموتى يربّون وحش الحضارات موتًا،
وموتى يموتون كي يحملوا الأرض فوق الرّفات...
إلى أين، يا سيّد البيض، تأخذ شعبي،... وشعبك?
إلى أيّ هاويةٍ يأخذ الأرض هذا الرّوبوت المدجّج بالطّائرات
وحامله الطّائرات، إلى أيّ هاويةٍ رحبةٍ تصعدون?
لكم ما تشاؤون: روما الجديدة، إسبارطة التكنولوجيا
وأيديولوجيا الجنون،
ونحن، سنهرب من زمنٍ لم نهيّئ له، بعد، هاجسنا
سنمضى إلى وطن الطّير سربًا من البشر السّابقين
نطلّ على أرضنا من حصى أرضنا، من ثقوب الغيوم
نطلّ على أرضنا، من كلام النّجوم نطلّ على أرضنا
من هواء البحيرات، من زغب الذّرة الهشّ، من
زهرة القبر، من ورق الحور، من كلّ شيء
يحاصركم، أيّها البيض، موتى يموتون، موتى
يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسّرّ،
فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كلّ الحقيقة،
عنكم
وعنّا...
وعنّا
وعنكم!
7
هنالك موتى ينامون في غرفٍ سوف تبنونها
هنالك موتى يزورون ماضيهم في المكان الّذي تهدمون
هنالك موتى يمرّون فوق الجسور الّتي سوف تبنونها
هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى
يجيئون فجرًا لكي يشربوا شايهم معكم، هادئين
كما تركتهم بنادقكم، فاتركوا يا ضيوف المكان
مقاعد خاليةً للمضيفين.. كي يقرؤوا
عليكم شروط السّلام مع... الميّتين!
البداية
في يدي غيمة
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنّهم أسرجوا الخيل في السهل
... كان المكان معدًّا لمولده: تلّةً
من رياحين أجداده تتلفّت شرقًا وغربًا. وزيتونةً
قرب زيتونةٍ في المصاحف تعلي سطوح اللغة...
ودخانًا من اللازورد يؤثّث هذا النهار لمسألةٍ
لا تخصّ سوى الله. آذار طفل
الشهور المدلّل. آذار يندف قطنًا على شجر
اللوز. آذار يؤلم خبّيزةً لفناء الكنيسة.
آذار أرضٌ لليل السّنونو، ولامرأةٍ
تستعدّ لصرختها في البراري... وتمتدّ في
شجر السنديان.
يولد الآن طفلٌ،
وصرخته،
في شقوق المكان
افترقنا على درج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطرٌ; هل أسأت إلى إخوتي
عندما قلت إني رأيت ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار? لا أتذكّر
أسماءهم. ولا أتذكّر أيضًا طريقتهم في
الكلام... وفي خفّة الطيران
أصدقائي يرفّون ليلاً، ولا يتركون
خلفهم أثرًا. هل أقول لأمّي الحقيقة:
لي إخوةٌ آخرون
إخوةٌ يضعون على شرفتي قمرًا
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطف الآقحوان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في آخر الليل
... سبع سنابل تكفي لمائدة الصيف.
سبع سنابل بين يديّ. وفي كل سنبلةٍ
ينبت الحقل حقلاً من القمح. كان
أبي يسحب الماء من بئره ويقول
له: لا تجفّ. ويأخذني من يدي
لأرى كيف أكبر كالفرفحينة...
أمشي على حافّة البئر: لي قمران
واحدٌ في الأعالي
وآخر في الماء يسبح... لي قمران
واثقين، كأسلافهم، من صواب
الشرائع... سكّوا حديد السيوف
محاريث. لن يصلح السيف ما
أفسد الصّيف - قالوا. وصلّوا
طويلاً. وغنّوا مدائحهم للطبيعة...
لكنهم أسرجوا الخيل،
كي يرقصوا رقصة الخيل،
في فضّة الليل...
تجرحني غيمةٌ في يدي: لا
أريد من الأرض أكثر من
هذه الأرض: رائحة الهال والقشّ
بين أبي والحصان.
في يدي غيمةٌ جرحتني. ولكنني
لا أريد من الشمس أكثر
من حبّة البرتقال وأكثر من
ذهبٍ سال من كلمات الأذان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل
في آخر الليل، وانتظروا
شبحًا طالعًا من شقوق المكان...
البداية
البئر
أختار يومًا غائمًا لأمرّ بالبئر القديمة.
ربّما امتلأت سماءً. ربّما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيّها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة! أرفع الطّيّون
عن حجرٍ: سلامًا أيها الحجر الصغير! لعلّنا
كنّا جناحي طائرٍ ما زال يوجعنا. سلامًا
أيها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي
أبدًا بها! وأقول للسّرو: انتبه ممّا يقول
لك الغبار. لعلّنا كنا هنا وتري كمانٍ
في وليمة حارسات اللازورد. لعلّنا كنّا
ذراعي عاشقٍ...
قد كنت أمشي حذو نفسي: كن قويًّا
يا قريني، وارفع الماضي كقرني ماعزٍ
بيديك، واجلس قرب بئرك. ربّما التفتت
إليك أيائل الوادي ... ولاح الصوت -
صوتك- صورةً حجريّةً للحاضر المكلاور...
لم أكمل زيارتي القصيرة بعد للنسيان...
لم آخذ معي أدوات قلبي كلّها:
جرسي على ريح الصنوبر
سلّمي قرب السماء
كواكبي حول السطوح
وبحّتي من لسعة الملح القديم...
وقلت للذكرى: سلامًا يا كلام الجدّة العفويّ
يأخذنا إلى أيّامنا البيضاء تحت نعاسها...
واسمي يرنّ كليرة الذّهب القديمة عند
باب البئر. أسمع وحشة الأسلاف بين
الميم والواو السحيقة مثل وادٍ غير ذي
زرعٍ. وأخفي ثعلبي الوديّ. أعرف أنني
سأعود حيًّا، بعد ساعاتٍ، من البئر التي
لم ألق فيها يوسفًا أو خوف إخوته
من الأصداء. كن حذرًا! هنا وضعتك
أمّك قرب باب البئر، وانصرفت إلى تعويذةٍ...
فاصنع بنفسك ما تشاء. صنعت وحدي ما
أشاء: كبرت ليلاً في الحكاية بين أضلاع
المثلّث: مصر، سوريّا، وبابل. ههنا
وحدي كبرت بلا إلهاتٍ الزراعة.
[كنّ يغسلن الحصى في غابة الزيتون. كنّ مبلّلاتٍ بالندى]...
ورأيت أنّي قد سقطت
عليّ من سفر القوافل، قرب أفعى. لم
أجد أحدًا لأكمله سوى شبحي. رمتني
الأرض خارج أرضها، واسمي يرنّ على خطاي
كحذوة الفرس: اقترب ... لأعود من هذا
الفراغ إليك يا جلجامش الأبديّ في اسمك!..
كن أخي! واذهب معي لنصيح بالبئر
القديمة... ربما امتلأت كأنثى بالسماء،
وربّما فاضت عن المعنى وعمّا سوف
يحدث في انتظار ولادتي من بئري الأولى!
سنشرب حفنةً من مائها،
سنقول للموتى حواليها: سلامًا
أيها الأحياء في ماء الفراش،
وأيّها الموتى، سلامًا! .
البداية
تعاليم حورية
فكّرت يومًا بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على يدها ونام.
وكان يكفي أن أداعب غصن داليةٍ على عجلٍ...
لتدرك أنّ كأس نبيذي امتلأت.
ويكفي أن أنام مبكّرًا لترى منامي واضحًا،
فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفي أن تجيء رسالةٌ منّي لتعرف أنّ عنواني تغيّر،
فوق قارعة السجون، وأنّ
أيّامي تحوّم حولها... وحيالها
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ.
تبحث في ثيابي الداخليّة عن نساءٍ أجنبيّاتٍ،
وترفو جوريي المقطوع.
لم أكبر على يدها كما شئنا:
أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرّخام... ولوّحت سحبٌ لنا،
ولماعزٍ يرث المكان.
وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دارجةً... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى،
وفصحى... كي أفسّر للظلال ظلالها!
ما زلت حيًّا في خضمّك.
لم تقولي ما تقول الأمّ للولد المريض.
مرضت من قمر النحاس على خيام البدو.
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز [كان الخبز قمحيًّا].
ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس.
حطّتني على كتفيك رائحة الندى.
يا ظبيةً فقدت هناك كناسها وغزالها...
لا وقت حولك للكلام العاطفيّ.
عجنت بالحبق الظهيرة كلّها.
وخبزت للسّمّاق عرف الديك.
أعرف ما يخرّب قلبك المثقوب بالطاووس،
منذ طردت ثانيةً من الفردوس.
عالمنا تغيّر كلّه، فتغيّرت أصواتنا.
حتّى التحيّة بيننا وقعت كزرّ الثوب فوق الرمل،
لم تسمع صدًى.
قولي: صباح الخير!
قولي أيّ شيء لي لتمنحني الحياة دلالها.
هي أخت هاجر.
أختها من أمّها.
تبكي مع النايات موتى لم يموتوا.
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تنفتح السماء،
ولا ترى الصحراء خلف أصابعي لترى حديقتها على وجه السراب،
فيركض الزّمن القديم
بها إلى عبثٍ ضروريٍّ:
أبوها طار مثل الشركلايّ على حصان العرس.
أمّا أمّها فلقد أعدّت،
دون أن تبكي، لزوجة زوجها حنّاءها،
وتفحّصت خلخالها...
لا نلتقي إلاّ وداعًا عند مفترق الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ.
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي.
ولا تصدّق ذكرياتك دائمًا.
لا تحترق لتضيء أمّك، تلك مهنتها الجميلة.
لا تحنّ إلى مواعيد الندى.
كن واقعيًّا كالسماء.
ولا تحنّ إلى عباءة جدّك السوداء،
أو رشوات جدّتك الكثيرة،
وانطلق كالمهر في الدنيا. وكن من أنت حيث تكون.
واحمل عبء قلبك وحده...
وارجع إذا اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي،
وترمي، في قصيدتي الأخيرة، شالها! .
البداية
ليل يفيض من الجسد
ياسمينٌ على ليل تمّوز، أغنيّةٌ
لغريبين يلتقيان على شارعٍ
لا يؤدّي إلى هدفٍ ...
من أنا بعد عينين لوزيّتين? يقول الغريب
من أنا بعد منفاك فيّ? تقول الغريبة.
إذن، حسنًا، فلنكن حذرين لئلا
نحرّك ملح البحار القديمة في جسدٍ يتذكّر...
كانت تعيد له جسدًا ساخنًا،
ويعيد لها جسدًا ساخنًا.
هكذا يترك العاشقان الغريبان حبّهما فوضويًّا،
كما يتركان ثيابهما الداخليّة بين زهور الملاءات...
- إن كنت حقًا حبيبي، فألّف
نشيد أناشيد لي، واحفر اسمي
على جذع رمّانةٍ في حدائق بابل...
- إن كنت حقًا تحبّينني، فضعي
حلمي في يديّ. وقولي له، لابن مريم،
كيف فعلت بنا ما فعلت بنفسك،
يا سيّدي? هل لدينا من العدل ما سوف
يكفي ليجعلنا عادلين غدًا?
- كيف أشفى من الياسمين غدًا?
- كيف أشفى من الياسمين غدًا?
يعتمان معًا في ظلالٍ تشعّ على
سقف غرفته: لا تكن معتمًا
بعد نهديّ - قالت له ...
قال: نهداك ليلٌ يضيء الضروريّ
نهداك ليلٌ يقبّلني. وامتلأنا أنا
والمكان بليلٍ يفيض من الكأس ...
تضحك من وصفه. ثم تضحك أكثر
حين تخبّئ منحدر الليل في يدها...
- يا حبيبي، لو كان لي
أن أكون صبيًّا... لكنتك أنت
- ولو كان لي أن أكون فتاةً
لكنتك أنت!...
وتبكي، كعادتها، عند عودتها
من سماءٍ نبيذيّة اللون: خذني
إلى بلدٍ ليس لي طائرٌ أزرقٌ
فوق صفصافة يا غريب!
وتبكي، لتقطع غاباتها في الرحيل
الطويل إلى ذاتها: من أنا?
من أنا بعد منفاك في جسدي?
آه منّي، ومنك، ومن بلدي
- من أنا بعد عينين لوزيّتين?
أريني غدي!...
هكذا يترك العاشقان وداعهما
فوضويًّا، كرائحة الياسمين على ليل تمّوز...
في كلّ تمّوز يحملني الياسمين إلى
شارع، لا يؤدّي إلى هدفٍ،
بيد أني أتابع أغنيّتي:
ياسمينٌ على ليل تمّوز......
البداية
عندما يبتعد
للعدوّ الذي يشرب الشاي في كوخنا فرسٌ في الدخان.
وبنتٌ لها حاجبان كثيفان.
عينان بنّيتان.
وشعرٌ طويلٌ كليل الأغاني على الكتفين.
وصورتها لا تفارقه كلّما جاءنا يطلب الشاي.
لكنّه لا يحدّثنا عن مشاغلها في المساء،
وعن فرسٍ تركته الأغاني على قمّة التلّ...
... في كوخنا يستريح العدوّ من البندقيّة،
يتركها فوق كرسيّ جدّي.
ويأكل من خبزنا مثلما يفعل الضيف.
يغفو قليلاً على مقعد الخيزران.
ويحنو على فرو قطّتنا.
ويقول لنا دائمًا:
لا تلومو الضحيّة!
نسأله: من هي?
فيقول: دمٌ لا يجفّفه الليل.../
... تلمع أزرار سترته عندما يبتعد
عم مساءً! وسلّم على بئرنا
وعلى جهة التين. وامش الهوينى على
ظلّنا في حقول الشعير. وسلّم على سرونا
في الأعالي. ولا تنس بوّابة البيت مفتوحةً
في الليالي. ولا تنس خوف الحصان من الطائرات،
وسلّم علينا، هناك إذا اتّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول على الباب... يسمعه جيّدًا
جيّدًا، ويخبّئه في السّعال السريع
ويلقي به جانبًا.
فلماذا يزور الضحيّة كلّ مساءٍ?
ويحفظ أمثالنا مثلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدّس?
لولا المسدس
لاختلط الناي في الناي ...
... لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها!
فلنكن طيّبين إذًا. كان يسألنا أن نكون هنا طيّبين.
ويقرأ شعرًا لطيّار (ييتس):
أنا لا أحبّ الذين أدافع عنهم،
كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيّ،
ويمشي ثمانين مترًا إلى
بيتنا الحجريّ هناك على طرف السّهل.../
سلّم على بيتنا يا غريب.
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها.
هل تشمّ أصابعنا فوقها?
هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحبًا غائبًا،
يتمنّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سرّه:
كيف كانت تتابع من بعده عمره
بدلاً منه? سلّم عليها
إذا اتّسع الوقت...
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا،
ويخبّئه في سعالٍ سريع،
ويلقى به جانبًا، ثم تلمع
أزرار سترته، عندما يبتعد...
البداية
يحبونني ميتا
يحبّونني ميّتًا
ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا.
سمعت الخطى ذاتها.
منذ عشرين عامًا تدقّ على حائط اللّيل.
تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن.
يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ.
ألا تشربون نبيذًا?
سألت. سنشرب.
قالوا. متى تطلقون الرّصاص عليّ?
سألت. أجابوا: تمهّل!
وصفّوا الكؤوس وراحوا يغنّون للشّعب،
قلت: متى تبدأون اغتيالي?
فقالوا: ابتدأنا... لماذا بعثت إلى الرّوح أحذيةً!
كي تسير على الأرض.
قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء
والأرض سوداء جدًّا.
أجبت: لأنّ ثلاثين بحرًا تصبّ بقلبي.
فقالوا: لماذا تحبّ النّبيذ الفرنسيّ?
قلت: لأنّي جديرٌ بأجمل امرأةٍ.
كيف تطلب موتك?
أزرق مثل نجومٍ تسيل من السّقف
- هل تطلبون المزيد من الخمر?
قالوا: سنشرب.
قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين،
أن تقتلوني رويدًا رويدًا لأكتب شعرًا أخيرًا لزوجة قلبي.
ولكنّهم يضحكون ولا يسرقون من البيت
غير الكلام الذي سأقول لزوجة قلبي..
البداية
تصبحون على وطن
عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو
وأحرسهم من هواة الرّثاء
أقول لهم :
تصبحون على وطن،
من سحابٍ ومن شجرٍ،
من سراب وماء
أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل
ومن قيمة المذبح الفائضة
وأسرق وقتا لكي يسرقوني من الوقت.
هل كلنا شهداء؟
وأهمس :
يا أصدقائي اتركوا حائطا واحداً،
لحبال الغسيل،
اتركوا ليلةً للغناء
اعلّق أسماءكم أين شئتم فناموا قليلاً،
وناموا على سلم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم
وانقلاب الكتاب على الأنبياء
وكونوا نشيد الذي لا نشيد له
عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء
أقول لكم :
تصبحون على وطنٍ
حمّلوه على فرس راكضه
وأهمس :
يا أصدقائي لن تصبحوا مثلنا ...
حبل مشنقةٍ غامضه !
البداية
سلام عليك
لديني ... لديني لأعرف في أي أرضٍ أموت
وفي أي أرضٍ سأبعث حيا
سلامٌ عليك وأنت تعدّين نار الصّباح،
سلامٌ عليك...سلامٌ عليك.
أما آن لي أن أقدّم بعض الهدايا إليك
أما آن لي أن أعود إليك؟
لديني لأشرب منك حليب البلاد
وأبقى صبياً على ساعديك
وأبقى صبياً إلى أبد الآبدين.
أما آن لي أن أقدّم بعض الهدايا إليك
أما آن لي أن أعود إليك؟
أمي! أضعت يد يّا على خصر امرأةٍ من سراب
أعانق رملاً أعانق ظلاً
رأيت كثيراً يا أمي رأيت
لديني لأبقى على راحتيك
آه، يا أمي
أحنّ إلى خبز صوتك أمّي!
أحنّ إليك يا أمّي
أحنّ إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي...
وتكبر فيّ الطفولة يوماً على صدر يومٍٍ
وأعشق عمري لأني إذا متّ
أخجل من دمع أمي!
البداية
أنا يوسف يا أبي
أنا يوسفٌ يا أبي.
يا أبي، إخوتي لا يحبّونني،
لا يريدونني بينهم يا أبي.
يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام.
يريدونني أن أموت لكي يمدحوني.
وهم أوصدوا باب بيتك دوني.
وهم طردوني من الحقل.
هم سمّموا عنبي يا أبي.
وهم حطّموا لعبي يا أبي.
حين مرّ النّسيم ولاعب شعري
غاروا وثاروا عليّ وثاروا عليك،
فماذا صنعت لهم يا أبي?
الفراشات حطّت على كتفيّ،
ومالت عليّ السّنابل،
والطّير حطّت على راحتيّ.
فماذا فعلت أنا يا أبي،
ولماذا أنا?
أنت سمّيتني يوسفًا،
وهمو أوقعوني في الجبّ، واتّهموا الذّئب;
والذّئب أرحم من إخوتي..
أبت! هل جنيت على أحدٍ عندما قلت إنّي:
رأيت أحد عشر كوكبًا، والشّمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين? .
البداية
مطار أثينا
مطار أثينا يوزّعنا للمطارات.
قال المقاتل: أين أقاتل?
صاحت به حاملٌ: أين أهديك طفلك?
قال الموظّف: أين أوظّف مالي?
فقال المثقّف: مالي ومالك?
قال رجال الجمارك: من أين جئتم?
أجبنا: من البحر.
قالوا: إلى أين تمضون?
قلنا: إلى البحر.
قالوا: وأين عناوينكم?
قالت امرأةٌ من جماعتنا: بقجتي قريتي.
في مطار أثينا انتظرنا سنينا.
تزوّج شابٌّ فتاةً ولم يجدا غرفةً للزّواج السّريع.
تساءل: أين أفضّ بكارتها?
فضحكنا وقلنا له: يا فتىً، لا مكان لهذا السّؤال.
وقال المحلّل فينا: يموتون من أجل ألاّ يموتوا.
يموتون سهوًا.
وقال الأديب: مخيّمنا ساقطٌ لا محالة.
ماذا يريدون منّا?
وكان مطار أثينا يغيّر سكّانه كلّ يومٍ.
ونحن بقينا مقاعد فوق المقاعد ننتظر البحر،
كم سنةً يا مطار أثينا!...
البداية
موسيقى عربية
( ليت الفتى حجرٌ )
يا ليتني حجر...
أكلّما شردت عينان
شرّدني
هذا السحاب سحابًا
كلّما خمشت عصفورةٌ أفقًا
فتّشت عن وثن?
أكلّما لمعت جيتارةٌ
خضعت
روحي لمصرعها في رغوة السّفن
أكلّما وجدت أنثى أنوثتها
أضاءني البرق من خصري
وأحرقني!
أكلّما ذبلت خبّيزةٌ
وبكى طيرٌ على فنن
أصابني مرضٌ
أو صحت: يا وطني!
أكلّما نوّر اللوز اشتعلت به
وكلما احترقا
كنت الدخان ومنديلاً
تمزقني
ريح الشمال، ويمحو وجهي المطر?
ليت الفتى حجرٌ
يا ليتني حجر...
البداية
لحن غجري
شارعٌ واضحٌ
وبنت
خرجت تشعل القمر
وبلادٌ بعيدةٌ
وبلادٌ بلا أثر ...
حلمٌ مالحٌ
وصوت
يحفر الخصر في الحجر
اذهبي يا حبيبتي
فوق رمشي ... أو الوتر
قمرٌ جارحٌ
وصمت
يكلار الريح والمطر
يجعل النهر إبرةً
في يدٍ تنسج الشجر
حائطٌ سابحٌ
وبيت
يختفي كلّما ظهر
ربّما يقتلوننا
أو ينامون في الممرّ ...
زمنٌ فاضحٌ
وموت
يشتهينا إذا عبر
انتهى الآن كلًّ شيء
واقتربنا من النهر
انتهت رحلة الغجر
وتعبنا من السفر
شارعٌ واضحٌ
وبنت
خرجت تلصق الصور
فوق جدران جثّتي ...
وخيامي بعيدة
وخيامٌ بلا أثر ..