قصيدة الأرض
في شهر آذار، في سنة الإنتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدموية.
في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات.
وقفن على باب مدرسة إبتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ.
افتتحن نشيد التراب.
دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات.
العصافير مدّت مناقيرها في اتّجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بناتٍ.
سقطن على باب مدرسةٍ إبتدائيةٍ.
للطباشير فوق الأصابع لون العصافير.
في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.
-2-
أسمّي التراب امتداداً لروحي
أسمّي يديّ رصيف الجروح
أسمّي الحصى أجنحة
أسمّي العصافير لوزاً وتين
وأستلّ من تينة الصدر غصناً
وأقذفه كالحجر
وأنسف دبّابة الفاتحين.
-3-
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز.
وأمي تربّي جديلتها وامتدادي على العشب.
كنت أحبّ "جراح الحبيب" و أجمعها في جيوبي، فتذبل عند الظهيرة، مرّ الرصاص على قمري الليلكي فلم ينكلار،
غير أنّ الزمان يمرّ على قمري الليلكي فيسقط سهواً...
وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض
في شهر آذار تنتشر الأرض فينا
مواعيد غامضةً
واحتفالاً بسيطاً
ونكتشف البحر تحت النوافذ
والقمر الليلكي على السرو
في شهر آذار ندخلٌ أوّل سجنٍ وندخل أوّل حبّ
وتنهمر الذكريات على قريةً في السياج
ولدنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
كيف تفرّين من سبلي يا ظلال السفرجل؟
في شهر آذار ندخل أوّل حبٍّ
وندخل أوّل سجنٍ
وتنبلج الذكريات عشاءً من اللغة العربية:
قال لي الحبّ يوماً: دخلت إلى الحلم وحدي فضعت وضاع بي الحلم. قلت تكاثر!
تر النهر يمشي إليك.
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.
-4-
بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كلاجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكان؟
لماذا أغنّي
لطفل ينام على الزعفران؟
وفي طرف النوم خنجر
وأمي تناولني صدرها
وتموت أمامي
بنسمة عنبر؟
-5-
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيّدتي الأرض!
أيّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
وأيّ نشيدٍ يلائم هذا الندى والبخور
كأنّ الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة-
هذا نشيدي
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعود الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس.
في شهر آذار تستيقظ الخيل.
سيّدتي الأرض!
والقمم اللّولبية تبسطها الخيل سجّادةً للصلاة السريعة
بين الرماح وبين دمي.
نصف دائرةٍ ترجع الخيل قوسا
ويلمع وجهي ووجهك حيفا وعرسا
وفي شهر آذار ينخفض البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
حصانٍ على وتر الجنس
في شهر آذار ينتفض الجنس في شجر الساحل العربي
وللموج أن يحبس الموج ... أن يتموّج...أن
يتزوّج .. أو يتضرّح بالقطن
أرجوك – سيّدتي الأرض – أن تسكنيني وأن تسكنين صهيلك
أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج والبندقية
أرجوك – سيدتي الأرض – أن تخصبي عمري المتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
وهذا ربيعي الطليعي
وهذا ربيعي النهائيّ
في شهر آذار زوّجت الأرض أشجارها.
-6-
كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسير أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيد انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيد الخريطة
أنا زهرة المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!
-7-
وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات
وواضحة كالحقول
العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
خديجة!
- أين حفيداتك الذاهبات إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة-
قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ.
وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة. خمس بناتٍ يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة. يقرأن مطلع أنشودةٍ على دوالي الخليل، ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي
من الصفر حتّى الجليل
ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
خديجة! لا تغلقي الباب خلفك
لا تذهبي في السحاب
ستمطر هذا النهار
ستمطر هذا النهار رصاصاً
ستمطر هذا النهار!
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة:
خمس بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت.
يسطع بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر.
خمس بناتٍ على باب مدرسة إبتدائيّة ينكلارن مرايا مرايا
البنات مرايا البلاد على القلب..
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
-8-
أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة
رأيت الحصى أجنحة
رأيت الندى أسلحة
عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل
-9-
وفي شهر آذار رائحةٌ للنباتات.
هذا زواج العناصر.
"آذار أقسى الشهور" وأكثرها شبقاً.
أيّ سيفٍ سيعبر بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكلاّر !
هذا عناقي الزّراعيّ في ذروة الحب.
هذا انطلاقي إلى العمر.
فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة حلمي إلى جسدي
سوف تنفجر الأرض حين أحقّق هذا الصراخ المكبّل بالريّ والخجل القرويّ.
وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدة ً في اتّجاهات كلّ البدايات.
هذا نموّ التداعي.
أسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي.
رأيت فتاةً على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي.
رأيت شهيدين يستمعان إلى البحر:عكّا تجئ مع الموج.
عكّا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي.
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت. خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخل هذا الكتاب وتأفل شمس أريحا بدون طقوس.
فيا وطن الأنبياء...تكامل!
ويا وطن الزراعين.. تكامل!
ويا وطن الشهداء.. . تكامل!
ويا وطن الضائعين .. تكامل!
فكلّ شعاب الجبال امتدادٌ لهذا النشيد.
وكلّ الأناشيد فيك امتدادٌ لزيتونة زمّلتني.
-10-
مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة
وعيناك نائمتان
أعود ثلاثين عاماً
وخمس حروبٍ
وأشهد أنّ الزمان
يخبّئ لي سنبلة
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغنّي يغنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردّ عليهم:
لأنّي أغنّي
وقد فتّشوا صدره
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتّشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتّشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتّشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
وراء التّلال
ينام المغنّي وحيداً
وفي شهر آذار
تصعد منه الظلال
-11-
أنا الأمل والسهل والرحب – قالت لي الأرض والعشب مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعس عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرس ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجة! إنّي رأيت .. وصدّقت رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها.
أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح هاجس يافا
أنا الأرض منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفّي ويرسم هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتّى رحيل الهواء عن الأرض
هذا التراب ترابي
وهذا السحاب سحابي
وهذا جبين خديجة
أنا العاشق الأبديّ – السجين البديهيّ
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكّر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر،
لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
يسألون عن الأرض: هل نهضت
طفلتي الأرض!
هل عرفوك لكي يذبحوك؟
وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
وهل عرفوك لكي يذبحوك
وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرض في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
البداية
أربعة عناوين شخصية
1 - متر مربع في السجن
هو الباب، ما خلفه جنّة القلب. أشياؤنا
- كلّ شيء لنا - تتماهى. وبابٌ هو الباب،
باب الكناية، باب الحكاية. بابٌ يهذّب أيلول.
بابٌ يعيد الحقول إلى أوّل القمح.
لا باب للباب لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي
عاشقًا ما أراه وما لا أراه.
أفي الأرض هذا الدلال وهذا الجمال ولا باب للباب?
زنزانتي لا تضيء سوى داخلي..
وسلامٌ عليّ، سلامٌ على حائط الصوت.
ألّفت عشر قصائد في مدح حريتي ههنا أو هناك.
أحبّ فتات السماء التي تتسلل من كوّة السجن مترًا من الضوء تسبح فيه الخيول،
وأشياء أمّي الصغيرة..
رائحة البنّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاج.
أحبّ الطبيعة بين الخريف وبين الشتاء،
وأبناء سجّاننا، والمجلاّت فوق الرصيف البعيد.
وألّفت عشرين أغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيه.
حرّيتي: أن أكون كما لا يريدون لي أن أكون.
وحريتي: أن أوسّع زنزانتي: أن أواصل أغنية الباب:
بابٌ هو الباب: لا باب للباب
لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ..
2 - مقعدٌ في قطار
مناديل ليست لنا.
عاشقات الثواني الأخيرة.
ضوء المحطة.
وردٌ يضلّل قلبًا يفتّش عن معطفٍ للحنان.
دموعٌ تخون الرصيف. أساطير ليست لنا.
من هنا سافروا، هل لنا من هناك لنفرح عند الوصول?
زنابق ليست لنا كي نقبّل خط الحديد.
نسافر بحثًا عن الصّفر
لكننا لا نحبّ القطارات حين تكون المحطات منفى جديدًا.
مصابيح ليست لنا كي نرى حبّنا واقفًا في انتظار الدخان.
قطارٌ سريعٌ يقصّ البحيرات.
في كل جيبٍ مفاتيح بيتٍ وصورة عائلةٍ.
كلّ أهل القطار يعودون للأهل، لكننا لا نعود إلى أي بيتٍ.
نسافر بحثًا عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش.
نوافذ ليست لنا، والسلام علينا بكلّ اللغات.
ترى، كانت الأرض أوضح حين ركبنا الخيول القديمة?
أين الخيول، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا?
بعيدٌ أنا عن بعيدي.
ما أبعد الحبّ! تصطادنا الفتيات السريعات مثل لصوص البضائع.
ننسى العناوين فوق زجاج القطارات.
نحن الذين نحبّ لعشر دقائق لا نستطيع الرجوع إلى أي بيتٍ دخلناه.
لا نستطيع عبور الصدى مرتين.
3 - حجرة العناية الفائقة
تدور بي الريح حين تضيق بي الأرض.
لا بدّ لي أن أطير وأن ألجم الريح،
لكنني آدميٌّ.. شعرت بمليون نايٍ يمزّق صدري.
تصبّبت ثلجًا وشاهدت قبري على راحتيّ.
تبعثرت فوق السرير.
تقيّأت.
غبت قليلاً عن الوعي.
متّ.
وصحت قبيل الوفاة القصيرة:
إني أحبّك، هل أدخل الموت من قدميك?
ومتّ.. ومتّ تمامًا،
فما أهدأ الموت لولا بكاؤك!
ما أهدأ الموت لولا يداك اللتان تدقّان صدري لأرجع من حيث متّ.
أحبك قبل الوفاة، وبعد الوفاة،
وبينهما لم أشاهد سوى وجه أمي.
هو القلب ضلّ قليلاً وعاد، سألت الحبيبة:
في أيّ قلبٍ أصبت? فمالت عليه وغطّت سؤإلى بدمعتها.
أيها القلب.. يا أيها القلب كيف كذبت عليّ وأوقعتني عن صهيلي?
لدينا كثير من الوقت، يا قلب، فاصمد
ليأتيك من أرض بلقيس هدهد.
بعثنا الرسائل.
قطعنا ثلاثين بحرًا وستين ساحل
وما زال في العمر وقتٌ لنشرد.
ويا أيها القلب، كيف كذبت على فرسٍ لا تملّ الرياح.
تمهّل لنكمل هذا العناق الأخير ونسجد.
تمهّل.. تمهّل لأعرف إن كنت قلبي أم صوتها وهي تصرخ:
خذني.
4 - غرفة في فندق
سلامٌ على الحب يوم يجيء،
ويوم يموت، ويوم يغيّر أصحابه في الفنادق!
هل يخسر الحبّ شيئًا? سنشرب قهوتنا في مساء الحديقة.
نروي أحاديث غربتنا في العشاء.
ونمضي إلى حجرةٍ كي نتابع بحث الغريبين عن ليلةٍ من حنانٍ، [إلخ.. إلخ..].
سننسى بقايا كلام على مقعدين،
سننسى سجائرنا، ثم يأتي سوانا ليكمل سهرتنا والدخان.
سننسى قليلاً من النوم فوق الوسادة.
يأتي سوانا ويرقد في نومنا، [إلخ.. إلخ..]
كيف كنّا نصدّق أجسادنا في الفنادق?
كيف نصدّق أسرارنا في الفنادق?
يأتي سوانا، يتابع صرختنا في الظلام الذي وحّد الجسدين،
[إلخ.. إلخ..] ولسنا سوى رقمين ينامان فوق السرير
المشاع المشاع، يقولان ما قاله عابران على الحبّ قبل قليلٍ.
ويأتي الوداع سريعًا سريعًا.
أما كان هذا اللقاء سريعًا لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيري?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيرك في فندقٍ آخر أو هنا فوق هذا السرير?
سنمشي الخطى ذاتها كي يجيء سوانا ويمشي الخطى ذاتها..
البداية
آن للشاعر أن يقتل نفسه
آن للشاعر أن يقتل نفسه
لا لشيء، بل لكي يقتل نفسه
قال : لن أسمح للنحلة أن تمتصّني .
قال : لن أسمح للفكرة أن تقتص مني .
قال : لن أسمح للمرأة أن تتركني حياً على ركبتها .
من ثلاثين سنه
يكتب الشعر وينسى . وقعنا عن جميع الأحصنه
ووجدنا الملح في حبة قمحٍ ، وهو ينساني . خسرنا الأمكنه
وهو ينساني . أنا الآخر فيه .
كلّ شيء صورةٌ فيه . أنا مرآته
كل موتٍ صورةٌ . كل جسد صورة
كل رحيل صورةٌ . كل بلد صورةٌ
قلت : كفى متنا تماماً ، أين إنسانيتي ؟ أين أنا ؟
قال : لا صورة إلا للصور
من ثلاثين شتاء
يكتب الشعر ويبني عالماً ينهار حوله
يجمع الأشلاء كي يرسم عصفوراً وباباً للفضاء
كلما انهار جدارٌ حولنا شاد بيوتاً في اللغه
كلما ضاق بنا البرّ بنى الجنة ، وامتدّ بجمله
من ثلاثين شتاء ، وهو يحيا خارجي
قال إن جئنا إلى أولى المدن
ووجدناها غياباً
وخراباً
لا تصدق
لا تطلّق
شارعاً سرنا عليه .. وإليه .
تكذب الأرض ولا يكذب حلمٌ يتدلى من يديه .
من ثلاثين خريفاً
يكتب الشعر ولا يحيا ولا يعشق إلا صوره
يدخل السجن فلا يبصر إلا قمره
يدخل الحبّ فلا يقطف إلا ثمره
قلت : ما المرأة فينا ؟ قال لي : تفاحةٌ للمغفره
أين إنسانيتي ؟ صحت
فسد الباب كي يبصرني خارجه . يصرخ بي :
من فكرةٍ في صورةٍ في سلم الإيقاع تأتي المرأة المنتظره .
آن للشاعر أن يخرج مني للأبد .
ليس قلبي من ورق
آن لي أن أفترق
عن مراياي وعن شعب الورق .
آن للنحلة أن تخرج من وردتها نحو الشفق
آن للوردة أن تخرج من شوكتها كي تحترق
آن للشوكة أن تدخل قلبي كله
كي أرى قلبي ، وكي أسم قلبي ، وأحسه .
آن للشاعر آن يقتل نفسه
لا لشيء
بل لكي يقتل نفسه
البداية
رباعيات
1
أرى ما أريد من الحقل... إني أرى
جدائل قمح تمشطها الريح، أغمض عيني:
هذا السراب يؤدي إلى النهوند
وهذا السكون يؤدي إلى اللازورد
2
أرى ما أريد من البحر... إني أرى
هبوب النوارس عند الغروب فأغمض عيني:
هذا الضياع يؤدي إلى أندلس
وهذا الشراع صلاة الحمام علي...
3
أرى ما أريد من الليل... إني أرى
نهايات هذا الممر الطويل على باب إحدى المدن
سأرمي مفكرتي في مقاهي الرصيف، سأجلس هذا الغياب
على مقعد فوق إحدى السفن.
4
أرى ما أريد من الروح: وجه الحجر
وقد حكه البرق، خضراء يا أرض... خضراء يا أرض روحي
أما كنت طفلا على حافة البئر يلعب؟
ما زلت ألعب.... هذا المدى ساحتي، والحجارة ريحي
5
أرى ما أريد من السلم... إني أرى
غزالا وعشبا، وجدول ماء... فأغمض عيني:
هذا الغزال ينام على ساعدي
وصياده نائم، قرب أولاده في مكان قصي
6
أرى ما أريد من الحرب... إني أرى
سواعد أجدادنا تعصر النبع في حجر أخضرا
وآباءنا يرثون المياه ولا يورثون، فأغمض عيني:
إن البلاد التي بين كفي من صنع كفي
7
أرى ما أريد من السجن: أيام زهره
مضت من هنا كي تدل غريبين في
على مقعد في الحديثة، أغمض عيني:
ما أوسع الأرض! ما أجمل الأرض من ثقب إبره
8
أرى ما أريد من البرق.. إني أرى
حقولا تفتت أغلالها بالنباتات، مرحى!
لأغنية اللوز بيضاء تهبط فوق دخان القرى
حماما... حماما نقاسمه قوت أطفالنا
9
أرى ما أريد من الحب ... إني أرى
خيولا ترقص سهلا، وخمسين غيتاره تتنهد
وسربا من النحل يمتص توت البراري، فأغمض عيني
حتى أرى ظلنا خلف هذا المكان المشرد.
10
أرى ما أريد من الموت: إني أحب، وينشق صدري
ويقفز مه الحصان الإروسي أبيض يركض فوق السحاب
يطير على غيمة لا نهائية ويدور مع الأزرق الأبدي...
فلا توقفوني من الموت، لا ترجعوني إلى نجمة من تراب
11
أرى ما أريد من الدم: إني رأيت القتيل
يخاطب قاتلة مذ أضاءت رصاصته قلبه: أنت لا تستطيع
من الآن أن تتذكر غيري. قتلتك سهوا، ولن تستطيع
من الآن أن تتذكر غيري... وأن تحمل ورد الربيع
12
أرى ما أريد من المسرح العبثي: الوحوش
قضاة المحاكم، قبعة الإمبراطور، أقنعة العصر،
لون السماء القديمة، راقصة القصر ، فوضى الجيوش
فأنسى الجميع، ولا أتذكر إلا الضحية خلف الستار....
13
أرى ما أريد من الشعر: كنا قديما إذا استشهد الشعراء
نشيعهم بالرياحين ثم نعود إلى شعرهم سالمين...
ولكننا في زمان المجلات والسينما والطنين نهيل التراب على شعرهم ضاحكين....
وحين نعود نراهم على بابنا واقفين...
14
أرى ما أريد من الفجر في الفجر... إني أرى
شعوبا تفتش عن خبزها بين خبز الشعوب
هو الخبز، ينسلنا من حرير النعاس، ومن قطن أحلامنا
أمن حبة القمح يبزغ فجر الحياة... وفجر الحروب؟
15
أرى ما أريد من الناس: رغبتهم في الحنين
إلى أي شيء. تباطؤهم في الذهاب إلى شغلهم
وسرعتهم في الرجوع إلى أهلهم....
وحاجتهم للتحية عند الصباح....
البداية
هدنة مع المغول أمام غابة السنديان
كائنات من السنديان تطيل الوقوف على التلّ.. قد
يصعد العشب من خبزنا نحوها إن تركنا المكان، وقد
يهبط اللازورد السماويّ منها إلى الظلّ فوق الحصون.
من سيملأ فخّارنا بعدنا? من يغيّر أعداءنا عندما يعرفون
أننا صاعدون إلى التلّ كي نمدح الله..
في كائناتٍ من السنديان?
كلّ شيء يدلّ على عبث الريح، لكننا لا نهبّ هباء
ربّما كان هذا النهار أخفّ علينا من الأمس، نحن الذين
قد أطالوا المكوث أمام السماء، ولم يعبدوا غير ما فقدوا
من عبادتهم. ربّما كانت الأرض أوسع من وصفها. ربما
كان هذا الطريق دخولاً مع الريح..
في غابة السنديان
الضحايا تمرّ من الجانبين، تقول كلامًا أخيرًا وتسقط في
عالمٍ واحدٍ. سوف ينتصر النسر والسنديان عليها، فلا بدّ من
هدنةٍ للشقائق في السهل كي تخفي الميتين على الجانبين، وكي
نتبادل بعض الشتائم قبل الوصول إلى التلّ. لا بدّ من
تعبٍ آدميّ يحوّل تلك الخيول إلى..
كائناتٍ من السنديان
الصدى واحدٌ في البراري: صدى. والسماء على حجر غربةٌ
علّقتها الطيور على لا نهايات هذا الفضاء، وطارت..
والصدى واحدٌ في الحروب الطويلة: أمٌّ، أبٌ، ولدٌ صدّقوا
أنّ خلف البحيرات خيلاً تعود إليهم مطهّمةً بالرجاء الأخير
فأعدّوا لأحلامهم قهوةً تمنع النوم..
في شبح السنديان
كلّ حربٍ تعلّمنا أن نحبّ الطبيعة أكثر: بعد الحصار
نعتني بالزنابق أكثر، نقطف قطن الحنان من اللوز في
شهر آذار. نزرع غاردينيا في الرخام، ونسقي نباتات جيراننا
عندما يذهبون إلى صيد غزلاننا. فمتى تضع الحرب أوزارها
كي نفكّ خصور النساء على التلّ..
من عقدة الرّمز في السنديان?
ليت أعداءنا يأخذون مقاعدنا في الأساطير، كي يعلموا
كم نحبّ الرصيف الذي يكرهون.. ويا ليتهم يأخذون
ما لنا من نحاس وبرق.. لنأخذ منهم حرير الضجر
ليت أعداءنا يقرأون رسائلنا مرتين، ثلاثًا.. ليعتذروا
للفراشة عن لعبة النار..
في غابة السنديان
كم أردنا السلام لسيّدنا في الأعالي.. لسيدنا في الكتب
كم أردنا السلام لغازلة الصوف.. للطفل قرب المغارة
لهواة الحياة.. لأولاد أعدائنا في مخابئهم.. للمغول
عندما يذهبون إلى ليل زوجاتهم، عندما يرحلون
عن براعم أزهارنا الآن.. عنّا،
وعن ورق السنديان
الحروب تعلّمنا أن نذوق الهواء وأن نمدح الماء. كم
ليلةً سوف نفرح بالحمّص الصلب والكلاتنا في جيوب معاطفنا?
أم سننسى مهارتنا في امتصاص الرذاذ? ونسأل: هل
كان في وسع من مات ألاّ يموت ليبدأ سيرته من هنا?
ربّما.. ربّما نستطيع مديح النبيذ ونرفع
نخبًا لأرملة السنديان
كلّ قلبٍ هنا لا يردّ على الناي يسقط في
شرك العنكبوت. تمهّل تمهّل لتسمع رجع الصدى
فوق خيل العدوّ، فإنّ المغول يحبّون خمرتنا
ويريدون أن يرتدوا جلد زوجاتنا في الليالي، وأن
يأخذوا شعراء القبيلة أسرى، وأن
يقطعوا شجر السنديان
المغول يريدوننا أن نكون كما يبتغون لنا أن نكون
حفنةً من هبوب الغبار على الصين أو فارسٍ، ويريدوننا
أن نحبّ أغانيهم كلّها كي يحلّ السلام الذي يطلبون..
سوف نحفظ أمثالهم.. سوف نغفر أفعالهم عندما يذهبون
مع هذا المساء إلى ريح أجدادهم
خلف أغنية السنديان
لم يجيئوا لينتصروا، فالخرافة ليست خرافتهم. إنهم يهبطون
من رحيل الخيول إلى غرب آسيا المريض، ولا يعرفون
أنّ في وسعنا أن نقاوم غازان - أرغون ألف سنة
بيد أن الخرافة ليست خرافته. سوف يدخل عمّا قليل
دين قتلاه كي يتعلّم منهم كلام قريش..
ومعجزة السنديان
الصّدى واحدٌ في الليالي. على قمّة الليل نحصي
النجوم على صدر سيّدنا، عمر أولادنا - كبروا سنةً بعدنا -
غنم الأهل تحت الضباب، وأعداد قتلى المغول، وأعدادنا
والصدى واحدٌ في الليالي: سنرجع يومًا، فلا بدّ من
شاعرٍ فارسيٍّ لهذا الحنين..
إلى لغة السنديان
الحروب تعلّمنا أن نحبّ التفاصيل: شكل مفاتيح أبوابنا،
أن نمشّط حنطتنا بالرموش، ونمشي خفافًا على أرضنا،
أن نقدّس ساعات قبل الغروب على شجر الزّنزلخت..
والحروب تعلّمنا أن نرى صورة الله في كل شيء، وأن
نتحمّل عبء الأساطير كي نخرج الوحش..
من قصّة السنديان
كم سنضحك من سوس خبز الحروب ومن دود ماء الحروب، إذا
ما انتصرنا نعلّق أعلامنا السود فوق حبال الغسيل
ثم نصنع منها جوارب.. أما النشيد، فلا بدّ من رفعه
في جنازات أبطالنا الخالدين.. وأما السبايا، فلا
بدّ من عتقهنّ، ولا بدّ من مطرٍ
فوق ذاكرة السنديان
خلف هذا المساء نرى ما تبقّى من الليل، عما قليل
يشرب القمر الحرّ شاي المحارب تحت الشجر
قمرٌ واحدٌ للجميع على الخندقين لهم ولنا، هل لهم
خلف تلك الجبال بيوتٌ من الطين، شايٌ، ونايٌ? وهل
عندهم حبقٌ مثلنا يرجع الذاهبين من الموت...
في غابة السنديان?
.. وأخيرًا، صعدنا إلى التلّ. ها نحن نرتفع الآن
فوق جذوع الحكاية.. ينبت عشبٌ جديد على دمنا وعلى دمهم.
سوف نحشو بنادقنا بالرياحين، سوف نطوّق أعناق ذاك
الحمام بأوسمة العائدين.. ولكننا
لم نجد أحدًا يقبل السّـلم.. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنادق مكلاورة.. والحمام يطير بعيدًا بعيدًا
لم نجد أحدًا ههنا..
لم نجد أحدًا..
لم نجد غابة السنديان!
البداية
سماء منخفضة
هنالك حبٌّ يسير على قدميه الحريريّتين
سعيدًا بغربته في الشوارع،
حبٌّ صغيرٌ فقيرٌ يبلّله مطرٌ عابرٌ
فيفيض على العابرين:
( هداياي أكبر منّي
كلوا حنطتي
واشربوا خمرتي
فسمائي على كتفيّ وأرضي لكم )...
هل شممت دم الياسمين المشاع
وفكّرت بي
وانتظرت معي طائرًا أخضر الذيل
لا اسم له?
هنالك حبٌّ فقيرٌ يحدّق في النهر
مستسلمًا للتداعي: إلى أين تركض
يا فرس الماء?
عما قليل سيمتصّك البحر
فامش الهوينى إلى موتك الاختياريّ،
يا فرس الماء!
هل كنت لي ضفّتين
وكان المكان كما ينبغي أن يكون
خفيفًا خفيفًا على ذكرياتك ?
أيّ الأغاني تحبّين ?
أيّ الأغاني? أتلك التي
تتحدّث عن عطش الحبّ،
أم عن زمانٍ مضى ?
هنالك حبّ فقير، ومن طرفٍ واحدٍ
هادئٌ هادئٌ لا يكلاّر
بلّور أيّامك المـنتقاة
ولا يوقد النار في قمرٍ باردٍ
في سريرك،
لا تشعرين به حين تبكين من هاجسٍ،
ربّما بدلاً منه،
لا تعرفين بماذا تحسّين حين تضمّين
نفسك بين ذراعيك!
أيّ الليالي تريدين ? أيّ الليالي ?
وما لون تلك العيون التي تحلمين
بها عندما تحلمين?
هنالك حبٌّ فقيرٌ، ومن طرفين
يقلّل من عدد اليائسين
ويرفع عرش الحمام على الجانبين.
عليك، إذًا، أن تقودي بنفسك
هذا الربيع السريع إلى من تحبّين
أيّ زمانٍ تريدين ? أيّ زمان ?
لأصبح شاعره، هكذا هكذا: كلّما
مضت امرأةٌ في المساء إلى سرّها
وجدت شاعرًا سائرًا في هواجسها.
كلّما غاص في نفسه شاعرٌ
وجد امرأةً تتعرّى أمام قصيدته...
أيّ منفىً تريدين?
هل تذهبين معي، أم تسيرين وحدك
في اسمك منفًى يكلّل منفًى
بلألائه ?
هنالك حبٌّ يمرّ بنا،
دون أن ننتبه،
فلا هو يدري ولا نحن ندري
لماذا تشرّدنا وردةٌ في جدارٍ قديم
وتبكي فتاةٌ على موقف الباص،
تقضم تفّاحةً ثم تبكي وتضحك:
(لا شيء، لا شيء أكثر
من نحلةٍ عبرت في دمي...
هنالك حبّ فقيرٌ، يطيل
التأمّل في العابرين، ويختار
أصغرهم قمرًا: أنت في حاجةٍ
لسماءٍ أقلّ ارتفاعًا،
فكن صاحبي تتّسع
لأنانيّة اثنين لا يعرفان
لمن يهديان زهورهما...
ربّما كان يقصدني، ربّما
كان يقصدنا دون أن ننتبه
هنالك حبّ ...
البداية
درس من كاما سوطرا
بكأس الشراب المرصّع باللازورد
انتظرها،
على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا
انتظرها،
بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال
انتظرها،
بذوق الأمير الرفيع البديع
انتظرها،
بسبع وسائد محشوّةٍ بالسحاب الخفيف
انتظرها
بنار البخور النسائيّ ملء المكان
انتظرها،
برائحة الصّندل الذّكريّة حول ظهور الخيول
انتظرها،
ولا تتعجّل، فإن أقبلت بعد موعدها
فانتظرها،
وإن أقبلت قبل موعدها
فانتظرها،
ولا تجفل الطير فوق جدائلها
وانتظرها،
لتجلس مرتاحةً كالحديقة في أوج زينتها
وانتظرها،
لكي تتنفّس هذا الهواء الغريب على قلبها
وانتظرها،
لترفع عن ساقها ثوبها غيمةً غيمةً
وانتظرها،
وخذها إلى شرفة لترى قمرًا غارقًا في الحليب
انتظرها،
وقدّم لها الماء، قبل النبيذ، ولا
تتطلّع إلى توآمي حجلٍ نائمين على صدرها
وانتظرها،
ومسّ على مهل يدها عندما
تضع الكأس فوق الرخام
كأنّك تحمل عنها الندى
وانتظرها،
تحدّث إليها كما يتحدّث نايٌ
إلى وترٍ خائفٍ في الكمان
كأنكما شاهدان على ما يعدّ غدٌ لكما
وانتظرها
ولمّع لها ليلها خاتمًا خاتمًا
وانتظرها
إلى أن يقول لك الليل:
لم يبق غيركما في الوجود
فخذها، برفقٍ، إلى موتك المشتهى
وانتظرها!...
البداية
عابرون في كلام عابر
أيها المارون في الكلمات العابرة
احملوا أسمائكم وانصرفوا
وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
إنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخري- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفلة عشاء راقص ... وانصرفوا
وعلينا , نحن , أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا , نحن , أن نحيا كما نحن نشاء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر , مروا أينما شئتم .. ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
:و لنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر أو حجل
فخذوا الماضي , إذا شئتم , إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد , إن شئتم
على صحن خزف
فلنا ما ليس يرضيكم : لنا المستقبل
ولنا في أرضنا ما نعمل
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدّسوا أوهامكم في حفرة مهجورة , وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى المسدس
ولنا ما ليس يرضيكم هنا , فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعبا ينزف
وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتو بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا .. من بحرنا
من برنا ... من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء , واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!..
في شهر آذار، في سنة الإنتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدموية.
في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات.
وقفن على باب مدرسة إبتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ.
افتتحن نشيد التراب.
دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات.
العصافير مدّت مناقيرها في اتّجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بناتٍ.
سقطن على باب مدرسةٍ إبتدائيةٍ.
للطباشير فوق الأصابع لون العصافير.
في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.
-2-
أسمّي التراب امتداداً لروحي
أسمّي يديّ رصيف الجروح
أسمّي الحصى أجنحة
أسمّي العصافير لوزاً وتين
وأستلّ من تينة الصدر غصناً
وأقذفه كالحجر
وأنسف دبّابة الفاتحين.
-3-
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز.
وأمي تربّي جديلتها وامتدادي على العشب.
كنت أحبّ "جراح الحبيب" و أجمعها في جيوبي، فتذبل عند الظهيرة، مرّ الرصاص على قمري الليلكي فلم ينكلار،
غير أنّ الزمان يمرّ على قمري الليلكي فيسقط سهواً...
وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض
في شهر آذار تنتشر الأرض فينا
مواعيد غامضةً
واحتفالاً بسيطاً
ونكتشف البحر تحت النوافذ
والقمر الليلكي على السرو
في شهر آذار ندخلٌ أوّل سجنٍ وندخل أوّل حبّ
وتنهمر الذكريات على قريةً في السياج
ولدنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
كيف تفرّين من سبلي يا ظلال السفرجل؟
في شهر آذار ندخل أوّل حبٍّ
وندخل أوّل سجنٍ
وتنبلج الذكريات عشاءً من اللغة العربية:
قال لي الحبّ يوماً: دخلت إلى الحلم وحدي فضعت وضاع بي الحلم. قلت تكاثر!
تر النهر يمشي إليك.
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.
-4-
بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كلاجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكان؟
لماذا أغنّي
لطفل ينام على الزعفران؟
وفي طرف النوم خنجر
وأمي تناولني صدرها
وتموت أمامي
بنسمة عنبر؟
-5-
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيّدتي الأرض!
أيّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
وأيّ نشيدٍ يلائم هذا الندى والبخور
كأنّ الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة-
هذا نشيدي
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعود الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس.
في شهر آذار تستيقظ الخيل.
سيّدتي الأرض!
والقمم اللّولبية تبسطها الخيل سجّادةً للصلاة السريعة
بين الرماح وبين دمي.
نصف دائرةٍ ترجع الخيل قوسا
ويلمع وجهي ووجهك حيفا وعرسا
وفي شهر آذار ينخفض البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
حصانٍ على وتر الجنس
في شهر آذار ينتفض الجنس في شجر الساحل العربي
وللموج أن يحبس الموج ... أن يتموّج...أن
يتزوّج .. أو يتضرّح بالقطن
أرجوك – سيّدتي الأرض – أن تسكنيني وأن تسكنين صهيلك
أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج والبندقية
أرجوك – سيدتي الأرض – أن تخصبي عمري المتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
وهذا ربيعي الطليعي
وهذا ربيعي النهائيّ
في شهر آذار زوّجت الأرض أشجارها.
-6-
كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسير أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيد انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيد الخريطة
أنا زهرة المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!
-7-
وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات
وواضحة كالحقول
العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
خديجة!
- أين حفيداتك الذاهبات إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة-
قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ.
وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة. خمس بناتٍ يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة. يقرأن مطلع أنشودةٍ على دوالي الخليل، ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي
من الصفر حتّى الجليل
ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
خديجة! لا تغلقي الباب خلفك
لا تذهبي في السحاب
ستمطر هذا النهار
ستمطر هذا النهار رصاصاً
ستمطر هذا النهار!
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة:
خمس بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت.
يسطع بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر.
خمس بناتٍ على باب مدرسة إبتدائيّة ينكلارن مرايا مرايا
البنات مرايا البلاد على القلب..
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
-8-
أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة
رأيت الحصى أجنحة
رأيت الندى أسلحة
عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل
-9-
وفي شهر آذار رائحةٌ للنباتات.
هذا زواج العناصر.
"آذار أقسى الشهور" وأكثرها شبقاً.
أيّ سيفٍ سيعبر بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكلاّر !
هذا عناقي الزّراعيّ في ذروة الحب.
هذا انطلاقي إلى العمر.
فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة حلمي إلى جسدي
سوف تنفجر الأرض حين أحقّق هذا الصراخ المكبّل بالريّ والخجل القرويّ.
وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدة ً في اتّجاهات كلّ البدايات.
هذا نموّ التداعي.
أسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي.
رأيت فتاةً على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي.
رأيت شهيدين يستمعان إلى البحر:عكّا تجئ مع الموج.
عكّا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي.
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت. خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخل هذا الكتاب وتأفل شمس أريحا بدون طقوس.
فيا وطن الأنبياء...تكامل!
ويا وطن الزراعين.. تكامل!
ويا وطن الشهداء.. . تكامل!
ويا وطن الضائعين .. تكامل!
فكلّ شعاب الجبال امتدادٌ لهذا النشيد.
وكلّ الأناشيد فيك امتدادٌ لزيتونة زمّلتني.
-10-
مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة
وعيناك نائمتان
أعود ثلاثين عاماً
وخمس حروبٍ
وأشهد أنّ الزمان
يخبّئ لي سنبلة
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغنّي يغنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردّ عليهم:
لأنّي أغنّي
وقد فتّشوا صدره
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتّشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتّشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتّشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
وراء التّلال
ينام المغنّي وحيداً
وفي شهر آذار
تصعد منه الظلال
-11-
أنا الأمل والسهل والرحب – قالت لي الأرض والعشب مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعس عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرس ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجة! إنّي رأيت .. وصدّقت رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها.
أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح هاجس يافا
أنا الأرض منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفّي ويرسم هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتّى رحيل الهواء عن الأرض
هذا التراب ترابي
وهذا السحاب سحابي
وهذا جبين خديجة
أنا العاشق الأبديّ – السجين البديهيّ
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكّر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر،
لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
يسألون عن الأرض: هل نهضت
طفلتي الأرض!
هل عرفوك لكي يذبحوك؟
وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
وهل عرفوك لكي يذبحوك
وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرض في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
البداية
أربعة عناوين شخصية
1 - متر مربع في السجن
هو الباب، ما خلفه جنّة القلب. أشياؤنا
- كلّ شيء لنا - تتماهى. وبابٌ هو الباب،
باب الكناية، باب الحكاية. بابٌ يهذّب أيلول.
بابٌ يعيد الحقول إلى أوّل القمح.
لا باب للباب لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي
عاشقًا ما أراه وما لا أراه.
أفي الأرض هذا الدلال وهذا الجمال ولا باب للباب?
زنزانتي لا تضيء سوى داخلي..
وسلامٌ عليّ، سلامٌ على حائط الصوت.
ألّفت عشر قصائد في مدح حريتي ههنا أو هناك.
أحبّ فتات السماء التي تتسلل من كوّة السجن مترًا من الضوء تسبح فيه الخيول،
وأشياء أمّي الصغيرة..
رائحة البنّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاج.
أحبّ الطبيعة بين الخريف وبين الشتاء،
وأبناء سجّاننا، والمجلاّت فوق الرصيف البعيد.
وألّفت عشرين أغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيه.
حرّيتي: أن أكون كما لا يريدون لي أن أكون.
وحريتي: أن أوسّع زنزانتي: أن أواصل أغنية الباب:
بابٌ هو الباب: لا باب للباب
لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ..
2 - مقعدٌ في قطار
مناديل ليست لنا.
عاشقات الثواني الأخيرة.
ضوء المحطة.
وردٌ يضلّل قلبًا يفتّش عن معطفٍ للحنان.
دموعٌ تخون الرصيف. أساطير ليست لنا.
من هنا سافروا، هل لنا من هناك لنفرح عند الوصول?
زنابق ليست لنا كي نقبّل خط الحديد.
نسافر بحثًا عن الصّفر
لكننا لا نحبّ القطارات حين تكون المحطات منفى جديدًا.
مصابيح ليست لنا كي نرى حبّنا واقفًا في انتظار الدخان.
قطارٌ سريعٌ يقصّ البحيرات.
في كل جيبٍ مفاتيح بيتٍ وصورة عائلةٍ.
كلّ أهل القطار يعودون للأهل، لكننا لا نعود إلى أي بيتٍ.
نسافر بحثًا عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش.
نوافذ ليست لنا، والسلام علينا بكلّ اللغات.
ترى، كانت الأرض أوضح حين ركبنا الخيول القديمة?
أين الخيول، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا?
بعيدٌ أنا عن بعيدي.
ما أبعد الحبّ! تصطادنا الفتيات السريعات مثل لصوص البضائع.
ننسى العناوين فوق زجاج القطارات.
نحن الذين نحبّ لعشر دقائق لا نستطيع الرجوع إلى أي بيتٍ دخلناه.
لا نستطيع عبور الصدى مرتين.
3 - حجرة العناية الفائقة
تدور بي الريح حين تضيق بي الأرض.
لا بدّ لي أن أطير وأن ألجم الريح،
لكنني آدميٌّ.. شعرت بمليون نايٍ يمزّق صدري.
تصبّبت ثلجًا وشاهدت قبري على راحتيّ.
تبعثرت فوق السرير.
تقيّأت.
غبت قليلاً عن الوعي.
متّ.
وصحت قبيل الوفاة القصيرة:
إني أحبّك، هل أدخل الموت من قدميك?
ومتّ.. ومتّ تمامًا،
فما أهدأ الموت لولا بكاؤك!
ما أهدأ الموت لولا يداك اللتان تدقّان صدري لأرجع من حيث متّ.
أحبك قبل الوفاة، وبعد الوفاة،
وبينهما لم أشاهد سوى وجه أمي.
هو القلب ضلّ قليلاً وعاد، سألت الحبيبة:
في أيّ قلبٍ أصبت? فمالت عليه وغطّت سؤإلى بدمعتها.
أيها القلب.. يا أيها القلب كيف كذبت عليّ وأوقعتني عن صهيلي?
لدينا كثير من الوقت، يا قلب، فاصمد
ليأتيك من أرض بلقيس هدهد.
بعثنا الرسائل.
قطعنا ثلاثين بحرًا وستين ساحل
وما زال في العمر وقتٌ لنشرد.
ويا أيها القلب، كيف كذبت على فرسٍ لا تملّ الرياح.
تمهّل لنكمل هذا العناق الأخير ونسجد.
تمهّل.. تمهّل لأعرف إن كنت قلبي أم صوتها وهي تصرخ:
خذني.
4 - غرفة في فندق
سلامٌ على الحب يوم يجيء،
ويوم يموت، ويوم يغيّر أصحابه في الفنادق!
هل يخسر الحبّ شيئًا? سنشرب قهوتنا في مساء الحديقة.
نروي أحاديث غربتنا في العشاء.
ونمضي إلى حجرةٍ كي نتابع بحث الغريبين عن ليلةٍ من حنانٍ، [إلخ.. إلخ..].
سننسى بقايا كلام على مقعدين،
سننسى سجائرنا، ثم يأتي سوانا ليكمل سهرتنا والدخان.
سننسى قليلاً من النوم فوق الوسادة.
يأتي سوانا ويرقد في نومنا، [إلخ.. إلخ..]
كيف كنّا نصدّق أجسادنا في الفنادق?
كيف نصدّق أسرارنا في الفنادق?
يأتي سوانا، يتابع صرختنا في الظلام الذي وحّد الجسدين،
[إلخ.. إلخ..] ولسنا سوى رقمين ينامان فوق السرير
المشاع المشاع، يقولان ما قاله عابران على الحبّ قبل قليلٍ.
ويأتي الوداع سريعًا سريعًا.
أما كان هذا اللقاء سريعًا لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيري?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيرك في فندقٍ آخر أو هنا فوق هذا السرير?
سنمشي الخطى ذاتها كي يجيء سوانا ويمشي الخطى ذاتها..
البداية
آن للشاعر أن يقتل نفسه
آن للشاعر أن يقتل نفسه
لا لشيء، بل لكي يقتل نفسه
قال : لن أسمح للنحلة أن تمتصّني .
قال : لن أسمح للفكرة أن تقتص مني .
قال : لن أسمح للمرأة أن تتركني حياً على ركبتها .
من ثلاثين سنه
يكتب الشعر وينسى . وقعنا عن جميع الأحصنه
ووجدنا الملح في حبة قمحٍ ، وهو ينساني . خسرنا الأمكنه
وهو ينساني . أنا الآخر فيه .
كلّ شيء صورةٌ فيه . أنا مرآته
كل موتٍ صورةٌ . كل جسد صورة
كل رحيل صورةٌ . كل بلد صورةٌ
قلت : كفى متنا تماماً ، أين إنسانيتي ؟ أين أنا ؟
قال : لا صورة إلا للصور
من ثلاثين شتاء
يكتب الشعر ويبني عالماً ينهار حوله
يجمع الأشلاء كي يرسم عصفوراً وباباً للفضاء
كلما انهار جدارٌ حولنا شاد بيوتاً في اللغه
كلما ضاق بنا البرّ بنى الجنة ، وامتدّ بجمله
من ثلاثين شتاء ، وهو يحيا خارجي
قال إن جئنا إلى أولى المدن
ووجدناها غياباً
وخراباً
لا تصدق
لا تطلّق
شارعاً سرنا عليه .. وإليه .
تكذب الأرض ولا يكذب حلمٌ يتدلى من يديه .
من ثلاثين خريفاً
يكتب الشعر ولا يحيا ولا يعشق إلا صوره
يدخل السجن فلا يبصر إلا قمره
يدخل الحبّ فلا يقطف إلا ثمره
قلت : ما المرأة فينا ؟ قال لي : تفاحةٌ للمغفره
أين إنسانيتي ؟ صحت
فسد الباب كي يبصرني خارجه . يصرخ بي :
من فكرةٍ في صورةٍ في سلم الإيقاع تأتي المرأة المنتظره .
آن للشاعر أن يخرج مني للأبد .
ليس قلبي من ورق
آن لي أن أفترق
عن مراياي وعن شعب الورق .
آن للنحلة أن تخرج من وردتها نحو الشفق
آن للوردة أن تخرج من شوكتها كي تحترق
آن للشوكة أن تدخل قلبي كله
كي أرى قلبي ، وكي أسم قلبي ، وأحسه .
آن للشاعر آن يقتل نفسه
لا لشيء
بل لكي يقتل نفسه
البداية
رباعيات
1
أرى ما أريد من الحقل... إني أرى
جدائل قمح تمشطها الريح، أغمض عيني:
هذا السراب يؤدي إلى النهوند
وهذا السكون يؤدي إلى اللازورد
2
أرى ما أريد من البحر... إني أرى
هبوب النوارس عند الغروب فأغمض عيني:
هذا الضياع يؤدي إلى أندلس
وهذا الشراع صلاة الحمام علي...
3
أرى ما أريد من الليل... إني أرى
نهايات هذا الممر الطويل على باب إحدى المدن
سأرمي مفكرتي في مقاهي الرصيف، سأجلس هذا الغياب
على مقعد فوق إحدى السفن.
4
أرى ما أريد من الروح: وجه الحجر
وقد حكه البرق، خضراء يا أرض... خضراء يا أرض روحي
أما كنت طفلا على حافة البئر يلعب؟
ما زلت ألعب.... هذا المدى ساحتي، والحجارة ريحي
5
أرى ما أريد من السلم... إني أرى
غزالا وعشبا، وجدول ماء... فأغمض عيني:
هذا الغزال ينام على ساعدي
وصياده نائم، قرب أولاده في مكان قصي
6
أرى ما أريد من الحرب... إني أرى
سواعد أجدادنا تعصر النبع في حجر أخضرا
وآباءنا يرثون المياه ولا يورثون، فأغمض عيني:
إن البلاد التي بين كفي من صنع كفي
7
أرى ما أريد من السجن: أيام زهره
مضت من هنا كي تدل غريبين في
على مقعد في الحديثة، أغمض عيني:
ما أوسع الأرض! ما أجمل الأرض من ثقب إبره
8
أرى ما أريد من البرق.. إني أرى
حقولا تفتت أغلالها بالنباتات، مرحى!
لأغنية اللوز بيضاء تهبط فوق دخان القرى
حماما... حماما نقاسمه قوت أطفالنا
9
أرى ما أريد من الحب ... إني أرى
خيولا ترقص سهلا، وخمسين غيتاره تتنهد
وسربا من النحل يمتص توت البراري، فأغمض عيني
حتى أرى ظلنا خلف هذا المكان المشرد.
10
أرى ما أريد من الموت: إني أحب، وينشق صدري
ويقفز مه الحصان الإروسي أبيض يركض فوق السحاب
يطير على غيمة لا نهائية ويدور مع الأزرق الأبدي...
فلا توقفوني من الموت، لا ترجعوني إلى نجمة من تراب
11
أرى ما أريد من الدم: إني رأيت القتيل
يخاطب قاتلة مذ أضاءت رصاصته قلبه: أنت لا تستطيع
من الآن أن تتذكر غيري. قتلتك سهوا، ولن تستطيع
من الآن أن تتذكر غيري... وأن تحمل ورد الربيع
12
أرى ما أريد من المسرح العبثي: الوحوش
قضاة المحاكم، قبعة الإمبراطور، أقنعة العصر،
لون السماء القديمة، راقصة القصر ، فوضى الجيوش
فأنسى الجميع، ولا أتذكر إلا الضحية خلف الستار....
13
أرى ما أريد من الشعر: كنا قديما إذا استشهد الشعراء
نشيعهم بالرياحين ثم نعود إلى شعرهم سالمين...
ولكننا في زمان المجلات والسينما والطنين نهيل التراب على شعرهم ضاحكين....
وحين نعود نراهم على بابنا واقفين...
14
أرى ما أريد من الفجر في الفجر... إني أرى
شعوبا تفتش عن خبزها بين خبز الشعوب
هو الخبز، ينسلنا من حرير النعاس، ومن قطن أحلامنا
أمن حبة القمح يبزغ فجر الحياة... وفجر الحروب؟
15
أرى ما أريد من الناس: رغبتهم في الحنين
إلى أي شيء. تباطؤهم في الذهاب إلى شغلهم
وسرعتهم في الرجوع إلى أهلهم....
وحاجتهم للتحية عند الصباح....
البداية
هدنة مع المغول أمام غابة السنديان
كائنات من السنديان تطيل الوقوف على التلّ.. قد
يصعد العشب من خبزنا نحوها إن تركنا المكان، وقد
يهبط اللازورد السماويّ منها إلى الظلّ فوق الحصون.
من سيملأ فخّارنا بعدنا? من يغيّر أعداءنا عندما يعرفون
أننا صاعدون إلى التلّ كي نمدح الله..
في كائناتٍ من السنديان?
كلّ شيء يدلّ على عبث الريح، لكننا لا نهبّ هباء
ربّما كان هذا النهار أخفّ علينا من الأمس، نحن الذين
قد أطالوا المكوث أمام السماء، ولم يعبدوا غير ما فقدوا
من عبادتهم. ربّما كانت الأرض أوسع من وصفها. ربما
كان هذا الطريق دخولاً مع الريح..
في غابة السنديان
الضحايا تمرّ من الجانبين، تقول كلامًا أخيرًا وتسقط في
عالمٍ واحدٍ. سوف ينتصر النسر والسنديان عليها، فلا بدّ من
هدنةٍ للشقائق في السهل كي تخفي الميتين على الجانبين، وكي
نتبادل بعض الشتائم قبل الوصول إلى التلّ. لا بدّ من
تعبٍ آدميّ يحوّل تلك الخيول إلى..
كائناتٍ من السنديان
الصدى واحدٌ في البراري: صدى. والسماء على حجر غربةٌ
علّقتها الطيور على لا نهايات هذا الفضاء، وطارت..
والصدى واحدٌ في الحروب الطويلة: أمٌّ، أبٌ، ولدٌ صدّقوا
أنّ خلف البحيرات خيلاً تعود إليهم مطهّمةً بالرجاء الأخير
فأعدّوا لأحلامهم قهوةً تمنع النوم..
في شبح السنديان
كلّ حربٍ تعلّمنا أن نحبّ الطبيعة أكثر: بعد الحصار
نعتني بالزنابق أكثر، نقطف قطن الحنان من اللوز في
شهر آذار. نزرع غاردينيا في الرخام، ونسقي نباتات جيراننا
عندما يذهبون إلى صيد غزلاننا. فمتى تضع الحرب أوزارها
كي نفكّ خصور النساء على التلّ..
من عقدة الرّمز في السنديان?
ليت أعداءنا يأخذون مقاعدنا في الأساطير، كي يعلموا
كم نحبّ الرصيف الذي يكرهون.. ويا ليتهم يأخذون
ما لنا من نحاس وبرق.. لنأخذ منهم حرير الضجر
ليت أعداءنا يقرأون رسائلنا مرتين، ثلاثًا.. ليعتذروا
للفراشة عن لعبة النار..
في غابة السنديان
كم أردنا السلام لسيّدنا في الأعالي.. لسيدنا في الكتب
كم أردنا السلام لغازلة الصوف.. للطفل قرب المغارة
لهواة الحياة.. لأولاد أعدائنا في مخابئهم.. للمغول
عندما يذهبون إلى ليل زوجاتهم، عندما يرحلون
عن براعم أزهارنا الآن.. عنّا،
وعن ورق السنديان
الحروب تعلّمنا أن نذوق الهواء وأن نمدح الماء. كم
ليلةً سوف نفرح بالحمّص الصلب والكلاتنا في جيوب معاطفنا?
أم سننسى مهارتنا في امتصاص الرذاذ? ونسأل: هل
كان في وسع من مات ألاّ يموت ليبدأ سيرته من هنا?
ربّما.. ربّما نستطيع مديح النبيذ ونرفع
نخبًا لأرملة السنديان
كلّ قلبٍ هنا لا يردّ على الناي يسقط في
شرك العنكبوت. تمهّل تمهّل لتسمع رجع الصدى
فوق خيل العدوّ، فإنّ المغول يحبّون خمرتنا
ويريدون أن يرتدوا جلد زوجاتنا في الليالي، وأن
يأخذوا شعراء القبيلة أسرى، وأن
يقطعوا شجر السنديان
المغول يريدوننا أن نكون كما يبتغون لنا أن نكون
حفنةً من هبوب الغبار على الصين أو فارسٍ، ويريدوننا
أن نحبّ أغانيهم كلّها كي يحلّ السلام الذي يطلبون..
سوف نحفظ أمثالهم.. سوف نغفر أفعالهم عندما يذهبون
مع هذا المساء إلى ريح أجدادهم
خلف أغنية السنديان
لم يجيئوا لينتصروا، فالخرافة ليست خرافتهم. إنهم يهبطون
من رحيل الخيول إلى غرب آسيا المريض، ولا يعرفون
أنّ في وسعنا أن نقاوم غازان - أرغون ألف سنة
بيد أن الخرافة ليست خرافته. سوف يدخل عمّا قليل
دين قتلاه كي يتعلّم منهم كلام قريش..
ومعجزة السنديان
الصّدى واحدٌ في الليالي. على قمّة الليل نحصي
النجوم على صدر سيّدنا، عمر أولادنا - كبروا سنةً بعدنا -
غنم الأهل تحت الضباب، وأعداد قتلى المغول، وأعدادنا
والصدى واحدٌ في الليالي: سنرجع يومًا، فلا بدّ من
شاعرٍ فارسيٍّ لهذا الحنين..
إلى لغة السنديان
الحروب تعلّمنا أن نحبّ التفاصيل: شكل مفاتيح أبوابنا،
أن نمشّط حنطتنا بالرموش، ونمشي خفافًا على أرضنا،
أن نقدّس ساعات قبل الغروب على شجر الزّنزلخت..
والحروب تعلّمنا أن نرى صورة الله في كل شيء، وأن
نتحمّل عبء الأساطير كي نخرج الوحش..
من قصّة السنديان
كم سنضحك من سوس خبز الحروب ومن دود ماء الحروب، إذا
ما انتصرنا نعلّق أعلامنا السود فوق حبال الغسيل
ثم نصنع منها جوارب.. أما النشيد، فلا بدّ من رفعه
في جنازات أبطالنا الخالدين.. وأما السبايا، فلا
بدّ من عتقهنّ، ولا بدّ من مطرٍ
فوق ذاكرة السنديان
خلف هذا المساء نرى ما تبقّى من الليل، عما قليل
يشرب القمر الحرّ شاي المحارب تحت الشجر
قمرٌ واحدٌ للجميع على الخندقين لهم ولنا، هل لهم
خلف تلك الجبال بيوتٌ من الطين، شايٌ، ونايٌ? وهل
عندهم حبقٌ مثلنا يرجع الذاهبين من الموت...
في غابة السنديان?
.. وأخيرًا، صعدنا إلى التلّ. ها نحن نرتفع الآن
فوق جذوع الحكاية.. ينبت عشبٌ جديد على دمنا وعلى دمهم.
سوف نحشو بنادقنا بالرياحين، سوف نطوّق أعناق ذاك
الحمام بأوسمة العائدين.. ولكننا
لم نجد أحدًا يقبل السّـلم.. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنادق مكلاورة.. والحمام يطير بعيدًا بعيدًا
لم نجد أحدًا ههنا..
لم نجد أحدًا..
لم نجد غابة السنديان!
البداية
سماء منخفضة
هنالك حبٌّ يسير على قدميه الحريريّتين
سعيدًا بغربته في الشوارع،
حبٌّ صغيرٌ فقيرٌ يبلّله مطرٌ عابرٌ
فيفيض على العابرين:
( هداياي أكبر منّي
كلوا حنطتي
واشربوا خمرتي
فسمائي على كتفيّ وأرضي لكم )...
هل شممت دم الياسمين المشاع
وفكّرت بي
وانتظرت معي طائرًا أخضر الذيل
لا اسم له?
هنالك حبٌّ فقيرٌ يحدّق في النهر
مستسلمًا للتداعي: إلى أين تركض
يا فرس الماء?
عما قليل سيمتصّك البحر
فامش الهوينى إلى موتك الاختياريّ،
يا فرس الماء!
هل كنت لي ضفّتين
وكان المكان كما ينبغي أن يكون
خفيفًا خفيفًا على ذكرياتك ?
أيّ الأغاني تحبّين ?
أيّ الأغاني? أتلك التي
تتحدّث عن عطش الحبّ،
أم عن زمانٍ مضى ?
هنالك حبّ فقير، ومن طرفٍ واحدٍ
هادئٌ هادئٌ لا يكلاّر
بلّور أيّامك المـنتقاة
ولا يوقد النار في قمرٍ باردٍ
في سريرك،
لا تشعرين به حين تبكين من هاجسٍ،
ربّما بدلاً منه،
لا تعرفين بماذا تحسّين حين تضمّين
نفسك بين ذراعيك!
أيّ الليالي تريدين ? أيّ الليالي ?
وما لون تلك العيون التي تحلمين
بها عندما تحلمين?
هنالك حبٌّ فقيرٌ، ومن طرفين
يقلّل من عدد اليائسين
ويرفع عرش الحمام على الجانبين.
عليك، إذًا، أن تقودي بنفسك
هذا الربيع السريع إلى من تحبّين
أيّ زمانٍ تريدين ? أيّ زمان ?
لأصبح شاعره، هكذا هكذا: كلّما
مضت امرأةٌ في المساء إلى سرّها
وجدت شاعرًا سائرًا في هواجسها.
كلّما غاص في نفسه شاعرٌ
وجد امرأةً تتعرّى أمام قصيدته...
أيّ منفىً تريدين?
هل تذهبين معي، أم تسيرين وحدك
في اسمك منفًى يكلّل منفًى
بلألائه ?
هنالك حبٌّ يمرّ بنا،
دون أن ننتبه،
فلا هو يدري ولا نحن ندري
لماذا تشرّدنا وردةٌ في جدارٍ قديم
وتبكي فتاةٌ على موقف الباص،
تقضم تفّاحةً ثم تبكي وتضحك:
(لا شيء، لا شيء أكثر
من نحلةٍ عبرت في دمي...
هنالك حبّ فقيرٌ، يطيل
التأمّل في العابرين، ويختار
أصغرهم قمرًا: أنت في حاجةٍ
لسماءٍ أقلّ ارتفاعًا،
فكن صاحبي تتّسع
لأنانيّة اثنين لا يعرفان
لمن يهديان زهورهما...
ربّما كان يقصدني، ربّما
كان يقصدنا دون أن ننتبه
هنالك حبّ ...
البداية
درس من كاما سوطرا
بكأس الشراب المرصّع باللازورد
انتظرها،
على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا
انتظرها،
بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال
انتظرها،
بذوق الأمير الرفيع البديع
انتظرها،
بسبع وسائد محشوّةٍ بالسحاب الخفيف
انتظرها
بنار البخور النسائيّ ملء المكان
انتظرها،
برائحة الصّندل الذّكريّة حول ظهور الخيول
انتظرها،
ولا تتعجّل، فإن أقبلت بعد موعدها
فانتظرها،
وإن أقبلت قبل موعدها
فانتظرها،
ولا تجفل الطير فوق جدائلها
وانتظرها،
لتجلس مرتاحةً كالحديقة في أوج زينتها
وانتظرها،
لكي تتنفّس هذا الهواء الغريب على قلبها
وانتظرها،
لترفع عن ساقها ثوبها غيمةً غيمةً
وانتظرها،
وخذها إلى شرفة لترى قمرًا غارقًا في الحليب
انتظرها،
وقدّم لها الماء، قبل النبيذ، ولا
تتطلّع إلى توآمي حجلٍ نائمين على صدرها
وانتظرها،
ومسّ على مهل يدها عندما
تضع الكأس فوق الرخام
كأنّك تحمل عنها الندى
وانتظرها،
تحدّث إليها كما يتحدّث نايٌ
إلى وترٍ خائفٍ في الكمان
كأنكما شاهدان على ما يعدّ غدٌ لكما
وانتظرها
ولمّع لها ليلها خاتمًا خاتمًا
وانتظرها
إلى أن يقول لك الليل:
لم يبق غيركما في الوجود
فخذها، برفقٍ، إلى موتك المشتهى
وانتظرها!...
البداية
عابرون في كلام عابر
أيها المارون في الكلمات العابرة
احملوا أسمائكم وانصرفوا
وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
إنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخري- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفلة عشاء راقص ... وانصرفوا
وعلينا , نحن , أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا , نحن , أن نحيا كما نحن نشاء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر , مروا أينما شئتم .. ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
:و لنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر أو حجل
فخذوا الماضي , إذا شئتم , إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد , إن شئتم
على صحن خزف
فلنا ما ليس يرضيكم : لنا المستقبل
ولنا في أرضنا ما نعمل
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدّسوا أوهامكم في حفرة مهجورة , وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى المسدس
ولنا ما ليس يرضيكم هنا , فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعبا ينزف
وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتو بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا .. من بحرنا
من برنا ... من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء , واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!..