الحملة الصليبية الثانية.. نقطة التحوُّل
لم تتوقف العمليات الحربية بسقوط القدس في أيدي الصليبيين، بل بقيت بلاد الشام مسرحاً لها، من دون أن يحرز المسلمون أي تقدم على هذا الصعيد، ولكن انحراف الصليبيين عن أهدافهم المعلنة، وارتفاع وتيرة الطمع بين أمراء الحملة الصليبية، فاقم الأوضاع بينهم، وجعلهم في موقع حرج، فضلاً عن حالة الاستكانة التي جاءت نتيجة استقرارهم في المناطق التي احتلوها. وفي المقابل، بدأ المسلمون يستفيقون من سباتهم، وأحسوا بالمخاطر الحقيقية الناجمة عن استيلاء الصليبيين على بلاد المسلمين، فوضعوا نصب أعينهم تحريرها مهما كلّف ذلك من ثمن، وقد بدأت أولى هذه المحاولات مع طغتكين حاكم دمشق والحاكم الفاطمي في صور في أعقاب تعرض صور لغزو صليـبي، وهذه البادرة وإن لم تحقق هدفها في إنقاذ صور من الإخضاع الصليـبي، إلاّ أنها بدأت ترسم معالم واضحة عمّا ستكون عليه المنطقة في المستقبل القريب، وذلك في ظل ارتفاع وتيرة المواجهة مع الصليبيين.
تحرير الرها
ظهرت أنلى المحاولات الجدية في سبيل تحرير الأراضي التي احتلها الصليبيون مع عماد الدين زنكي أمير الموصل الذي أسقط إمارة "الرها" في أيدي المسلمين، فأحدث سقوطها دوياً شديداً لدى الصليبيين الذين أصيبوا بصدمة عنيفة، لما كانت تتمتع به هذه المدينة من مكانة دينية خاصة في تاريخ المسيحية، بالإضافة إلى أنها كانت أول إمارة صليبية أسسها الصليبيون في الشرق، فجاء سقوطها إيذانًا ببداية انهيار الكيان الصليـبي كله، وتداعي الحكم الصليبي بتكوين إمبراطورية صليبية كبرى في الشرق.
الحملية الصليبية الثانية
ومن ثم تضافرت الجهود في أوروبا من أجل مساندة الوجود الصليـبي في الشرق، ودعمه ومساعدته على الصمود والبقاء وعدم الانهيار.
وأسفرت تلك الجهود عن تبني فكرة "الحملة الصليبية الثانية"، وقد تألفت تلك الحملة من جيشين كبيرين على رأس أحدهما "لويس السابع" ملك "فرنسا"، ويقود الآخر "كونراد الثالث" إمبراطور "ألمانيا"، وقد عرض عليهما "روجر الثاني" ملك "صقلية" أن يقدم لهما المساعدة للوصول إلى الشرق عن طريق البحر، ولكنهما رفضا هذا العرض بسبب العداء بين "النورمان" في "صقلية" من ناحية، و"فرنسا" و"ألمانيا" من جهة أخرى، ولذلك فقد تقرر أن تسير الحملة براً إلى بلاد الشام، وتم الاتفاق على أن يأتي "كونراد" وجيشه أولاً إلى الشرق، ثم يلحق بهم "لويس" والفرنسيون إلى "القسطنطينية" حتى لا يؤدي مسير الجيشين معًا إلى صعوبة في التموين.
ووصل جيش الصليبيين بقيادة "كونراد الثالث" إلى حدود "الدولة البيزنطية" في صيف (542هـ=1147م)، فأعلن الإمبراطور البيزنطي "مانويل كومنين" عن استعداده للسماح للصليبيين بالمرور من أراضيه، وإمدادهم بالمؤن؛ بشرط أن يتعهدوا بالولاء له، وتسليمه كل ما يستولون عليه من البلاد في آسيا، ولكن كونراد رفض هذه الشروط، وساءت العلاقات بين الصليبيين والبيزنطيين، فأسرع الإمبراطور البيزنطي إلى عقد الصلح مع السلطان "مسعود" سلطان السلاجقة.
هزيمة "كونراد الثالث" أمام السلاجقة
لم يبق أمام كونراد الثالث إلاّ أن يتابع سيره إلى آسيا الصغرى، فعبر البوسفور على رأس قواته، وزحف بها نحو الشرق، وبدلاً من أن يسلك طريق الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى محتمياًَ بالقلاع والمدن البيزنطية المنتشرة على الشاطئ، اختار "كونراد" أن يخترق أراضي السلاجقة، معرِّضاً بذلك قواته لخطر داهم. وما فاقم من الأوضاع تخلي الدليل البيزنطي عنه على إثر نزاع حصل بينه وبينهم، وسمح للسلاجقة بالانقضاض عليهم وقتل عدد كبير منهم، وأسر آخرين، وهو ما اضطر كونراد إلى التراجع بمن بقي من فلول جيشه المُمزَّق، حتى وصل إلى "نيقية".
لويس السابع يقود الحملة
أما "لويس السابع" ـ ملك فرنسا ـ فإنه عندما وصل إلى أسوار "القسطنطينية، كان قد بلغه نبأ الصلح الذي عقده الإمبراطور البيزنطي مع سلطان السلاجقة، ما اضطره إلى قبول العرض الذي قدمه إليه مانويل، ويقضي بأن يقسم له جميع الفرنسيين المشتركين في الحملة يمين الولاء والتبعية عما يحتلونه من أراض آسيوية، مقابل إمداده بالتموين اللازم للحملة.
وسار لويس بجنوده حتى وصل نيقية؛ وهناك التقى بفلول جيش كونراد الثالث، وتفادياً للوقوع في الخطر الذي لحق بكونراد، آثر أن يسلك الطريق الجنوبي المحاذي لساحل البحر المتوسط، وسار معه "كونراد" وجنوده، إلا أن هذا الأخير أحس بحرج موقفه بعد أن فقد معظم جيشه أمام السلاجقة، فآثر العودة مع جنوده إلى القسطنطينية، وما لبث أن اتجه وجنوده إلى فلسطين على بعض السفن البيزنطية.
واستمر "لويس" في تقدمه حتى وصل إلى "أنطاليا" ـ إحدى المدن البيزنطية الحصينة على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى ـ وأراد لويس العبور إلى الشام بحرًا؛ تلافياً لتعريض قواته لخطر السلاجقة إذا ما سلك طريق البر، ولكن البيزنطيين امتنعوا عن تقديم السفن اللازمة لهم، ما اضطر "لويس السابع" إلى نقل جنوده على دفعات إلى الشام بالسفن القليلة المتاحة.
أمام أبواب أنطاكية
وصل "لويس السابع" إلى"أنطاكية"، حيث استُقبل استقبالاً عظيمًا من الأمراء الصليبيين في "الشام"، ولكن سرعان ما بدأت بوادر الشقاق تلوح بين هؤلاء الأمراء، حتى فقدت تلك الحملة الهدف الأساسي الذي جاءت من أجله، وسعى كل واحد منهم إلى توجيه الحملة لخدمة مصالحه الخاصة وأهوائه الشخصية.
أراد "ريموند دي بواتيه" أمير "أنطاكية" وعم الملكة (إليانور) زوجة لويس السابع ـ أن تتوجه الحملة للقضاء على قوة الزنكيين في حلب، بينما أراد "ريموند" أمير "طرابلس" استرداد قلعة "بعرين" من المسلمين. أما جوسلين الثاني" أمير "الرها"، فقد أراد استرداد إمارته التي استولى عليها "عماد الدين"، لاعتقاده أن سقوط "الرها" إنما كان هو المحرك الأول لتلك الحملة. وأراد لويس ورجاله الاتجاه إلى بيت المقدس، وقد برر ذلك بأنه إنما قبل أن يحمل الصليب، ويأتي إلى الأراضي المقدسة للحج وزيارة بيت المقدس والدفاع عن تلك المدينة، لا لغزو حلب!!.
الصليبيون على أبواب دمشق
تابع "لويس السابع" سيره إلى "بيت المقدس"، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً، ولكن وللمرة الثانية انحرفت الحملة الصليبية الثانية عن أهدافها، عندما تم عقد مجلس صليـبي كبير، ضم "لويس السابع" و"كونراد الثالث" ـ الذي سبقه إلى "بيت المقدس" ـ والملك "بلدوين الثالث"، وأمراء مملكة "بيت المقدس"، وعدداً كبيراً من كبار رجال الدين والأمراء الصليبيين، حيث اتفق الجميع على مهاجمة "معين الدين أُنر" حاكم "دمشق" الفعلي، الذي كان حليفاً للصليبيين، ولكن نور الدين زنكي حاكم حلب استطاع استمالته إليه. وبالفعل، جهَّز الصليبيون جيشاً لهذه الغاية وزحفوا إلى دمشق (ربيع الأول 542 هـ= حزيران 1148م) فحاصروها، ولكن أهالي دمشق تصدوا لهم بقوة بمشاركة الزهاد والفقهاء في القتال، الذين كان لهم دور كبير في إذكاء شعلة الصمود والتصدي، وبدأت قوات "معين الدين أنر" تتزايد، وتدفقت النجدات إلى "دمشق" من الأبواب الشمالية، وهو ما جعل الصليبيين يتحولون من الهجوم إلى الدفاع.
والذي زاد من حراجة الموقف الصليـبي هو تلك الشقاقات والخلافات التي وقعت بينهم حول تبعية "دمشق" ومصيرها، وأحقية كل فريق منهم في ضمها إليه في حالة سقوطها والاستيلاء عليها.
فشل الحملة وانسحاب الصليبيين
وفي ذلك الوقت، علم "أُنر" بخروج الأميرين الزنكيين "سيف الدين غازي" أتابك "الموصل" و"نور الدين محمود" أتابك "حلب" لنجدته، فأرسل إلى الصليبيين يهددهم وينذرهم بالخطر الذي سيحيق بهم إذا لم يتركوا "دمشق"، ويعرض عليهم ـ في الوقت نفسه ـ إعطاءهم حصن "بانياس" مقابل الجلاء عن "دمشق".
ولم يكن أمام الصليبيين خيار أمام هذا العرض المغري الذي يضمن لهم السلامة بعد أن أحاط بهم الهلاك والردى في كل مكان.
ورجع الصليبيون بعد أربعة أيام من حصار "دمشق" يجرون أذيال الهزيمة والفشل، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي هدف من وراء تلك الحملة التي حشدت لها أوروبا رجالها وإمكاناتها، فلم تجنِ من ورائها إلا المزيد من الهزائم والمزيد من القتلى والدماء، وضاعت هيبة الصليبيين في "الشام"، وانحطت مكانتهم وضعف سلطانهم.
وكان فشل هذه الحملة هو نقطة التحول نحو انهزام الصليبيين وزوال وجودهم من العالم الإسلامي، وأصبح المسلمون على قدر كبير من الثقة بأنفسهم، خاصة بعد الانتصارات التي حققها "عماد الدين"، ومن بعده ابنه "نور الدين" على الصليبيين، وارتفاع راية الجهاد ضد الصليبيين، ما أوجد نوعاً من الوحدة والتآزر بين المسلمين، وقد جمعهم لواء الدين ورابطة الإسلام التي تتضاءل أمامها كل العصبيات والقوميات.
لم تتوقف العمليات الحربية بسقوط القدس في أيدي الصليبيين، بل بقيت بلاد الشام مسرحاً لها، من دون أن يحرز المسلمون أي تقدم على هذا الصعيد، ولكن انحراف الصليبيين عن أهدافهم المعلنة، وارتفاع وتيرة الطمع بين أمراء الحملة الصليبية، فاقم الأوضاع بينهم، وجعلهم في موقع حرج، فضلاً عن حالة الاستكانة التي جاءت نتيجة استقرارهم في المناطق التي احتلوها. وفي المقابل، بدأ المسلمون يستفيقون من سباتهم، وأحسوا بالمخاطر الحقيقية الناجمة عن استيلاء الصليبيين على بلاد المسلمين، فوضعوا نصب أعينهم تحريرها مهما كلّف ذلك من ثمن، وقد بدأت أولى هذه المحاولات مع طغتكين حاكم دمشق والحاكم الفاطمي في صور في أعقاب تعرض صور لغزو صليـبي، وهذه البادرة وإن لم تحقق هدفها في إنقاذ صور من الإخضاع الصليـبي، إلاّ أنها بدأت ترسم معالم واضحة عمّا ستكون عليه المنطقة في المستقبل القريب، وذلك في ظل ارتفاع وتيرة المواجهة مع الصليبيين.
تحرير الرها
ظهرت أنلى المحاولات الجدية في سبيل تحرير الأراضي التي احتلها الصليبيون مع عماد الدين زنكي أمير الموصل الذي أسقط إمارة "الرها" في أيدي المسلمين، فأحدث سقوطها دوياً شديداً لدى الصليبيين الذين أصيبوا بصدمة عنيفة، لما كانت تتمتع به هذه المدينة من مكانة دينية خاصة في تاريخ المسيحية، بالإضافة إلى أنها كانت أول إمارة صليبية أسسها الصليبيون في الشرق، فجاء سقوطها إيذانًا ببداية انهيار الكيان الصليـبي كله، وتداعي الحكم الصليبي بتكوين إمبراطورية صليبية كبرى في الشرق.
الحملية الصليبية الثانية
ومن ثم تضافرت الجهود في أوروبا من أجل مساندة الوجود الصليـبي في الشرق، ودعمه ومساعدته على الصمود والبقاء وعدم الانهيار.
وأسفرت تلك الجهود عن تبني فكرة "الحملة الصليبية الثانية"، وقد تألفت تلك الحملة من جيشين كبيرين على رأس أحدهما "لويس السابع" ملك "فرنسا"، ويقود الآخر "كونراد الثالث" إمبراطور "ألمانيا"، وقد عرض عليهما "روجر الثاني" ملك "صقلية" أن يقدم لهما المساعدة للوصول إلى الشرق عن طريق البحر، ولكنهما رفضا هذا العرض بسبب العداء بين "النورمان" في "صقلية" من ناحية، و"فرنسا" و"ألمانيا" من جهة أخرى، ولذلك فقد تقرر أن تسير الحملة براً إلى بلاد الشام، وتم الاتفاق على أن يأتي "كونراد" وجيشه أولاً إلى الشرق، ثم يلحق بهم "لويس" والفرنسيون إلى "القسطنطينية" حتى لا يؤدي مسير الجيشين معًا إلى صعوبة في التموين.
ووصل جيش الصليبيين بقيادة "كونراد الثالث" إلى حدود "الدولة البيزنطية" في صيف (542هـ=1147م)، فأعلن الإمبراطور البيزنطي "مانويل كومنين" عن استعداده للسماح للصليبيين بالمرور من أراضيه، وإمدادهم بالمؤن؛ بشرط أن يتعهدوا بالولاء له، وتسليمه كل ما يستولون عليه من البلاد في آسيا، ولكن كونراد رفض هذه الشروط، وساءت العلاقات بين الصليبيين والبيزنطيين، فأسرع الإمبراطور البيزنطي إلى عقد الصلح مع السلطان "مسعود" سلطان السلاجقة.
هزيمة "كونراد الثالث" أمام السلاجقة
لم يبق أمام كونراد الثالث إلاّ أن يتابع سيره إلى آسيا الصغرى، فعبر البوسفور على رأس قواته، وزحف بها نحو الشرق، وبدلاً من أن يسلك طريق الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى محتمياًَ بالقلاع والمدن البيزنطية المنتشرة على الشاطئ، اختار "كونراد" أن يخترق أراضي السلاجقة، معرِّضاً بذلك قواته لخطر داهم. وما فاقم من الأوضاع تخلي الدليل البيزنطي عنه على إثر نزاع حصل بينه وبينهم، وسمح للسلاجقة بالانقضاض عليهم وقتل عدد كبير منهم، وأسر آخرين، وهو ما اضطر كونراد إلى التراجع بمن بقي من فلول جيشه المُمزَّق، حتى وصل إلى "نيقية".
لويس السابع يقود الحملة
أما "لويس السابع" ـ ملك فرنسا ـ فإنه عندما وصل إلى أسوار "القسطنطينية، كان قد بلغه نبأ الصلح الذي عقده الإمبراطور البيزنطي مع سلطان السلاجقة، ما اضطره إلى قبول العرض الذي قدمه إليه مانويل، ويقضي بأن يقسم له جميع الفرنسيين المشتركين في الحملة يمين الولاء والتبعية عما يحتلونه من أراض آسيوية، مقابل إمداده بالتموين اللازم للحملة.
وسار لويس بجنوده حتى وصل نيقية؛ وهناك التقى بفلول جيش كونراد الثالث، وتفادياً للوقوع في الخطر الذي لحق بكونراد، آثر أن يسلك الطريق الجنوبي المحاذي لساحل البحر المتوسط، وسار معه "كونراد" وجنوده، إلا أن هذا الأخير أحس بحرج موقفه بعد أن فقد معظم جيشه أمام السلاجقة، فآثر العودة مع جنوده إلى القسطنطينية، وما لبث أن اتجه وجنوده إلى فلسطين على بعض السفن البيزنطية.
واستمر "لويس" في تقدمه حتى وصل إلى "أنطاليا" ـ إحدى المدن البيزنطية الحصينة على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى ـ وأراد لويس العبور إلى الشام بحرًا؛ تلافياً لتعريض قواته لخطر السلاجقة إذا ما سلك طريق البر، ولكن البيزنطيين امتنعوا عن تقديم السفن اللازمة لهم، ما اضطر "لويس السابع" إلى نقل جنوده على دفعات إلى الشام بالسفن القليلة المتاحة.
أمام أبواب أنطاكية
وصل "لويس السابع" إلى"أنطاكية"، حيث استُقبل استقبالاً عظيمًا من الأمراء الصليبيين في "الشام"، ولكن سرعان ما بدأت بوادر الشقاق تلوح بين هؤلاء الأمراء، حتى فقدت تلك الحملة الهدف الأساسي الذي جاءت من أجله، وسعى كل واحد منهم إلى توجيه الحملة لخدمة مصالحه الخاصة وأهوائه الشخصية.
أراد "ريموند دي بواتيه" أمير "أنطاكية" وعم الملكة (إليانور) زوجة لويس السابع ـ أن تتوجه الحملة للقضاء على قوة الزنكيين في حلب، بينما أراد "ريموند" أمير "طرابلس" استرداد قلعة "بعرين" من المسلمين. أما جوسلين الثاني" أمير "الرها"، فقد أراد استرداد إمارته التي استولى عليها "عماد الدين"، لاعتقاده أن سقوط "الرها" إنما كان هو المحرك الأول لتلك الحملة. وأراد لويس ورجاله الاتجاه إلى بيت المقدس، وقد برر ذلك بأنه إنما قبل أن يحمل الصليب، ويأتي إلى الأراضي المقدسة للحج وزيارة بيت المقدس والدفاع عن تلك المدينة، لا لغزو حلب!!.
الصليبيون على أبواب دمشق
تابع "لويس السابع" سيره إلى "بيت المقدس"، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً، ولكن وللمرة الثانية انحرفت الحملة الصليبية الثانية عن أهدافها، عندما تم عقد مجلس صليـبي كبير، ضم "لويس السابع" و"كونراد الثالث" ـ الذي سبقه إلى "بيت المقدس" ـ والملك "بلدوين الثالث"، وأمراء مملكة "بيت المقدس"، وعدداً كبيراً من كبار رجال الدين والأمراء الصليبيين، حيث اتفق الجميع على مهاجمة "معين الدين أُنر" حاكم "دمشق" الفعلي، الذي كان حليفاً للصليبيين، ولكن نور الدين زنكي حاكم حلب استطاع استمالته إليه. وبالفعل، جهَّز الصليبيون جيشاً لهذه الغاية وزحفوا إلى دمشق (ربيع الأول 542 هـ= حزيران 1148م) فحاصروها، ولكن أهالي دمشق تصدوا لهم بقوة بمشاركة الزهاد والفقهاء في القتال، الذين كان لهم دور كبير في إذكاء شعلة الصمود والتصدي، وبدأت قوات "معين الدين أنر" تتزايد، وتدفقت النجدات إلى "دمشق" من الأبواب الشمالية، وهو ما جعل الصليبيين يتحولون من الهجوم إلى الدفاع.
والذي زاد من حراجة الموقف الصليـبي هو تلك الشقاقات والخلافات التي وقعت بينهم حول تبعية "دمشق" ومصيرها، وأحقية كل فريق منهم في ضمها إليه في حالة سقوطها والاستيلاء عليها.
فشل الحملة وانسحاب الصليبيين
وفي ذلك الوقت، علم "أُنر" بخروج الأميرين الزنكيين "سيف الدين غازي" أتابك "الموصل" و"نور الدين محمود" أتابك "حلب" لنجدته، فأرسل إلى الصليبيين يهددهم وينذرهم بالخطر الذي سيحيق بهم إذا لم يتركوا "دمشق"، ويعرض عليهم ـ في الوقت نفسه ـ إعطاءهم حصن "بانياس" مقابل الجلاء عن "دمشق".
ولم يكن أمام الصليبيين خيار أمام هذا العرض المغري الذي يضمن لهم السلامة بعد أن أحاط بهم الهلاك والردى في كل مكان.
ورجع الصليبيون بعد أربعة أيام من حصار "دمشق" يجرون أذيال الهزيمة والفشل، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي هدف من وراء تلك الحملة التي حشدت لها أوروبا رجالها وإمكاناتها، فلم تجنِ من ورائها إلا المزيد من الهزائم والمزيد من القتلى والدماء، وضاعت هيبة الصليبيين في "الشام"، وانحطت مكانتهم وضعف سلطانهم.
وكان فشل هذه الحملة هو نقطة التحول نحو انهزام الصليبيين وزوال وجودهم من العالم الإسلامي، وأصبح المسلمون على قدر كبير من الثقة بأنفسهم، خاصة بعد الانتصارات التي حققها "عماد الدين"، ومن بعده ابنه "نور الدين" على الصليبيين، وارتفاع راية الجهاد ضد الصليبيين، ما أوجد نوعاً من الوحدة والتآزر بين المسلمين، وقد جمعهم لواء الدين ورابطة الإسلام التي تتضاءل أمامها كل العصبيات والقوميات.