بسم الله الرحمن الرحيم
السعادة
1- من الدلالات إلى الإشكالية
يرتبط مفهوم السعادة في التمثل الاجتماعي بتحقيق الرفاهية المادية و الوصول إلى حد أعلى من الإشباع الحسي . كما تـرتبط الكلمة عموما بالوصول إلى درجة من الرضى والراحة المادية والنفسية.. كما ترتبط أيضا بتحقيق حاجة مفقودة أو محروم منها . فقد تكون السعادة هي النجاح أو عمل يحقق دخلا مرتفعا أو امتلاك بيت أو سيارة فخمة أو تكوين أسرة أو إنجاب أولاد أو الصحة …كما تستعمل لكلمة سعيد كنقيض لتعيس أو شقي.
إن هذا التمثل ليس كليا خاطئا ، لكنه يركز على جانب واحد من السعادة ألا وهو ذاك الذي يرتبط باللذة أو الإشباع الحسي الآني المتغير والمنتقل من موضوع إلى آخر.
لننتقل إذن إلى الدلالة اللغوية ، ففي لسان العرب لابن منظور نجد أن السعادة من الفعل الثلاثي سعد يسعد سعدا فهو سعيد ومسعود بمعنى اليمن ضد الشقاوة . ويشتق منها ثلاثة ألفاظ تشترك في نفس المعنى وهي : الساعد والسعدان والسعد. يدل اللفظ الأول على ثلاثة معان أولها ساعد الإنسان أي ذراعه ، وساعد الطير أي جناحه ، وساعد القبيلة أي رئيسها. وثانيها على مجاري المياه التي تصب في النهر أو البحر ، وأخيرا على مجاري اللبن في الضرع. أما لفظ السعدان فيدل على نبات ذي شوك وهو من أفضل ما ترعاه الإبل.
يتبين أن الكلمة في هذا المستوى تحيل إلى الإشباع والارتواء ، كما تحيل إلى تدبير أمر وشؤون الجماعة.
في الدلالة الفلسفية يتحدد مفهوم السعادة كــ " حالة إرضاء تام للذات يتسم بالقوة والثبات ويتميز عن اللذة للحظيتها وعن الفرح لحركيته ".
هكذا تتأسس الدلالة الفلسفية على ما هو ثابت مقابل ما هو متحرك ، وعلى ما هو دائم مقابل ما هو لحظي… كما يتأسس المفهوم هنا أيضا على تخوم مفاهيم أخرى كاللذة و الفضيلة والخير والعقل …
أما الإشكال المطروح فهو إذا كانت السعادة ترتبط بالإشباع والرضى واللذة ، فما نوعية هذه الأخيرة ؟ هل هي حسية و مادية ؟ أم عقلية ؟ أم روحية ؟ وهل هي لحظية زائلة ، أم دائمة مستمرة ؟ ثم هل السعادة مجرد صدفة أم أنها نتيجة مجهود ومواظبة ؟ هل هي فردية أم جماعية ؟ وأخيرا هل هي أرضية أم أخروية ؟
2- السعادة إرضاء للبدن أم للعقل أم للقلب ؟
- السعادة إرضاء للعقل : الرازي – مسكويه – الفارابي .
يميز فخر الدين الرازي بين نوعين للذة الحسية والعقلية ، ويعتبر أن الأخيرة أشرف، لأن الشهوات الحسية البدنية يشترك فيها الإنسان والحيوان . وكلما كان الشيء المحقق للسعادة أكثر حصولا كلما كانت السعادة أكثر ، في مقابل ذلك فالإكثار من الشهوات البدنية مضرة ، بل سبب كل الرذائل . وهذه اللذات الحسية ليست لذات بمعنى الكلمة ولكنها دفع أو تلبية لحاجات . كما أن الإنسان العاقل لا يفتخر بكثرة الشرب والأكل ، بل إن قيمة الحيوان نفسه لا ينظر إليها من خلال الأكل والشرب ولكن من خلال الأعمال التي يقوم بها كقدرته على التحمل والجري والرياضة….ثم يتساءل الرازي قائلا : " فإذا كانت الحيوانات غير الناطقة لم يظهر فضائلها ومنافعها ، بسبب الأكل والشرب بل بأمور أخرى ، فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل ؟" . وينتهي أخيرا إلى تقرير ما يلي : سعادة الإنسان في العلوم والمعارف والأخلاق الفاضلة ، إنها بهذا المعنى إرضاء للعقل لا للبدن .
أما مسكويه فيرى أن هناك مرتبتان للسعادة ترتبطان بطبيعة الإنسان المزدوجة ، فالأولى جسمية والثانية روحية . ومرتبة السعادة الثانية هي الأشرف والأتَََََم . وهي تعني تحصيل وامتلاك قدر من الحكمة والإقامة بروحانية مع الملأ الأعلى.. حينئذ يكون الفرد خاليا من الآلام والحسرات التي لا يخلو صاحب المرتبة الأولى منها . إنها أقصى السعادات التي تتجاوز الجسم والمال و خيرات الدنيا إلا ما يحتاجه البدن . وحتى داخل هذه الرتبة الأخيرة هناك رتب أخرى تتفاوت بحسب استعداد أصحابها واجتهادهم .
ويرى الفارابي أن أخص الخيرات بالإنسان عقله، لأنه به صار إنسانا، وبه يقف على الحق والباطل.. وبالتالي فهو سبيل السعادة . وبما أن الفلسفة تلزم الإنسان باستعمال العقل ، فالاشتغال بها يؤِدي إلى السعادة . وبناء على ما سبق فاللذة العقلية هي مصدر السعادة .
هكذا يجمع الفلاسفة المسلمون على أن السعادة تتمثل في المعرفة واكتشاف الحقيقة ، حقيقة الذات والعالم …لكن هل طريق المعرفة هو العقل فقط - كما يعتقد الفلاسفة - أم هناك طريق آخر يتجاوز العقل ؟ فما هو إذن هذا الطريق ؟ وهل المعرفة كافية وحدها لبلوغ السعادة أم تحتاج إلى سلوك ..؟
- السعادة إرضاء للقلب : السهروردي – ابن عربي
على عكس اعتقاد الفلاسفة ، يرى الصوفيون - أهل الولاية والعرفان و أرباب القلوب- أن السعادة سعادة القلب . فهذا السهروردي يرى أن صحبة شيخ عارف هي الطريق إلى السعادة . يتمثل عمل الشيخ في تحبيب الله إلى عباده والعكلا ، وذلك لأنه يسلك بالمريد طريق رسول الله e ليحبه الله . ويسلك به طريق التزكية ، أي تطهير النفس وانجلاء القلب ، ليصبح مستعدا لانعكاس أنوار العظمة الإلهية … ليحب العبـُد ربه . فيحب الباقي ويزهد في الفاني … وبذلك يرفع عن قلبه الحجب ، وتتوالى عليه فتوح الغيب .. وكل ذلك لا يكون إلا بالمكابدة والمجاهدة والإخلاص والوفاء بالشروط ، لينتقل من هذا الحال إلى حال السعادة . يقول : "… فوجد العسل بعد العلقم ، وترَوحَ بنسمات الفضل ، وبرز من مضيق المكابدة إلى متسع المساهلة ، وأونس بنفحات القرب، وفتح له باب المشاهدة، فوجد دواءه، وفاض وعاؤه، وصدرت منه كلمات الحكمة…".
ويرى محيي الدين بن عربي أن القلب هو سبيل السعادة و ليس العقل . فالقلب من رحمة الله . وإذا وسع الله القلب وملأه ، فإنه لا يسع غيره ، وهكذا يتجلى له فيعرفه . فهذا هو الإنسان العارف أو الكامل . وهذه هي السعادة العظمى، لأنها ترتبط بمشاهدة تجلي الحق في مرآة قلب العارف ، بعيدا عن منطق الفلاسفة وأقيستهم ومقولاتهم. إنها انتقال من مقام إلى مقام ، ومن حال إلى حال وصولا إلى السعادة العظمى ، والتي ليست مجرد معارف يتم تكديسها ، إنها سلوك وتجربة روحية ومجاهدة للنفس . ويعبر أبو حامد الغزالي عن ذلك في تعريفه للتصوف قائلا: " وحاصل علومهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله (…)إنهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال."
هكذا يتفق المفكرون المسلمون سواء كانوا فلاسفة أو متصوفة على أن السعادة الحقيقة هي سعادة النفس لا البدن . ترجع أسس هذا التصور إلى النظر إلى الإنسان باعتباره ثنائي التكوين : نفس وبدن . ولأن البدن يشترك فيه مع كائنات أخرى ، ولأنه يشير إلى الرغبة والشهوة وغيرها فقد تم تمجيد النفس . وبالتالي تتمثل السعادة في القدرة على تزكية النفس وتطهيرها من عوائق البدن والشهوات الدنيئة ، وهو السبيل لتقبل الفضائل ، وتحصيل السعادة، لكن هل تحصيلها يتم في عزلة وانقطاع عن الجماعة ، أم داخلها ؟ وهل تلغي سعادة الدار الآخرة السعادة على الأرض ؟
3- السعادة : تدبير للفرد أم للمدينة ؟
إذا كانت السعادة تبعا لما سبق هي سعادة النفس فإن مفكري الإسلام حرصوا على ألا تكون بمعزل عن الجماعة . فمسكويه يربط بين السعادة والقدرة على الفعل، وعلى الإرادة والاختيار بين الخير والشر وبين الجميل والقبيح، ولهذا فهي لا يجب أن تكون حاصل اتفاق وصدفة. وإنما هي جهد ومواظبة ومثابرة .. وتربية تقوم فيها الشـريعة بالدور الأساسي، حيث يعمل الوالدان على إعداد الأحداث (الأطفال) لقبول الحكمة وطلب الفضائل وبلوغ السعادة بالفكر الصحيح والقياس المستقيم والآداب الجميلة ، آخذين في ذلك بشتى ضروب سياسات الثواب والعقاب.
إن ارتباط السعادة بالعلم والتعلم والعمل يفترض أنها مطلب اجتماعي . لذلك يعارض مسكويه بشدة التصور الصوفي، خصوصا في جانبه الانعزالي . ويعتبره خروجا عن العقل والواقع وضربا من الكلال ومحبة الراحة ، ويرى أنهما أعظم الرذائل لأنهما يسلخان الإنسان من إنسانيته . إن حقيقة الفضائل إنما تتم بمخالطة الناس، وليس بملازمة الفرد لمغارة أو كهف أو جبل، فلا عفة أو نجدة أو سخاء أو عدالة دون مخالطة أو مساكنة، ويؤكد أخيرا أن الفضائل أعمال وأفعال تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم ، " وليست الفضائل أعداما ".
و الفارابي هو الآخر يرى أن تحصيل السعادة الحقيقية إنما يكون باجتماع الأفراد ، أهل المدينة كشكل من أشكال الاجتماع الإنساني القائم هو الآخر على الاختيار والإرادة . ويقصد من المدينة التعاون على بلوغ السعادة ، وهذه هي المدينة الفاضلة . ويشبهها بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه المختلفة تحت قيادة رئيسها القلب . وبالتالي فالسعادة في هذا المقام ترتبط بالأرض كما ترتبط بالجماعة .
هكذا تغدو السعادة في مفهومها الإسلامي تعاليا على اللذات الحسية وبحثا عن الكمال الأخلاقي، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة، إنها إرادة نحو إسعاد الذات والآخرين، وهي إرادة ترتبط بالمعرفة وبالعقل وأيضا بالشرع الذي يروم إسعاد البشر، ليس فقط سعادة أرضية، ولكن أيضا سعادة أخروية.
السعادة
1- من الدلالات إلى الإشكالية
يرتبط مفهوم السعادة في التمثل الاجتماعي بتحقيق الرفاهية المادية و الوصول إلى حد أعلى من الإشباع الحسي . كما تـرتبط الكلمة عموما بالوصول إلى درجة من الرضى والراحة المادية والنفسية.. كما ترتبط أيضا بتحقيق حاجة مفقودة أو محروم منها . فقد تكون السعادة هي النجاح أو عمل يحقق دخلا مرتفعا أو امتلاك بيت أو سيارة فخمة أو تكوين أسرة أو إنجاب أولاد أو الصحة …كما تستعمل لكلمة سعيد كنقيض لتعيس أو شقي.
إن هذا التمثل ليس كليا خاطئا ، لكنه يركز على جانب واحد من السعادة ألا وهو ذاك الذي يرتبط باللذة أو الإشباع الحسي الآني المتغير والمنتقل من موضوع إلى آخر.
لننتقل إذن إلى الدلالة اللغوية ، ففي لسان العرب لابن منظور نجد أن السعادة من الفعل الثلاثي سعد يسعد سعدا فهو سعيد ومسعود بمعنى اليمن ضد الشقاوة . ويشتق منها ثلاثة ألفاظ تشترك في نفس المعنى وهي : الساعد والسعدان والسعد. يدل اللفظ الأول على ثلاثة معان أولها ساعد الإنسان أي ذراعه ، وساعد الطير أي جناحه ، وساعد القبيلة أي رئيسها. وثانيها على مجاري المياه التي تصب في النهر أو البحر ، وأخيرا على مجاري اللبن في الضرع. أما لفظ السعدان فيدل على نبات ذي شوك وهو من أفضل ما ترعاه الإبل.
يتبين أن الكلمة في هذا المستوى تحيل إلى الإشباع والارتواء ، كما تحيل إلى تدبير أمر وشؤون الجماعة.
في الدلالة الفلسفية يتحدد مفهوم السعادة كــ " حالة إرضاء تام للذات يتسم بالقوة والثبات ويتميز عن اللذة للحظيتها وعن الفرح لحركيته ".
هكذا تتأسس الدلالة الفلسفية على ما هو ثابت مقابل ما هو متحرك ، وعلى ما هو دائم مقابل ما هو لحظي… كما يتأسس المفهوم هنا أيضا على تخوم مفاهيم أخرى كاللذة و الفضيلة والخير والعقل …
أما الإشكال المطروح فهو إذا كانت السعادة ترتبط بالإشباع والرضى واللذة ، فما نوعية هذه الأخيرة ؟ هل هي حسية و مادية ؟ أم عقلية ؟ أم روحية ؟ وهل هي لحظية زائلة ، أم دائمة مستمرة ؟ ثم هل السعادة مجرد صدفة أم أنها نتيجة مجهود ومواظبة ؟ هل هي فردية أم جماعية ؟ وأخيرا هل هي أرضية أم أخروية ؟
2- السعادة إرضاء للبدن أم للعقل أم للقلب ؟
- السعادة إرضاء للعقل : الرازي – مسكويه – الفارابي .
يميز فخر الدين الرازي بين نوعين للذة الحسية والعقلية ، ويعتبر أن الأخيرة أشرف، لأن الشهوات الحسية البدنية يشترك فيها الإنسان والحيوان . وكلما كان الشيء المحقق للسعادة أكثر حصولا كلما كانت السعادة أكثر ، في مقابل ذلك فالإكثار من الشهوات البدنية مضرة ، بل سبب كل الرذائل . وهذه اللذات الحسية ليست لذات بمعنى الكلمة ولكنها دفع أو تلبية لحاجات . كما أن الإنسان العاقل لا يفتخر بكثرة الشرب والأكل ، بل إن قيمة الحيوان نفسه لا ينظر إليها من خلال الأكل والشرب ولكن من خلال الأعمال التي يقوم بها كقدرته على التحمل والجري والرياضة….ثم يتساءل الرازي قائلا : " فإذا كانت الحيوانات غير الناطقة لم يظهر فضائلها ومنافعها ، بسبب الأكل والشرب بل بأمور أخرى ، فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل ؟" . وينتهي أخيرا إلى تقرير ما يلي : سعادة الإنسان في العلوم والمعارف والأخلاق الفاضلة ، إنها بهذا المعنى إرضاء للعقل لا للبدن .
أما مسكويه فيرى أن هناك مرتبتان للسعادة ترتبطان بطبيعة الإنسان المزدوجة ، فالأولى جسمية والثانية روحية . ومرتبة السعادة الثانية هي الأشرف والأتَََََم . وهي تعني تحصيل وامتلاك قدر من الحكمة والإقامة بروحانية مع الملأ الأعلى.. حينئذ يكون الفرد خاليا من الآلام والحسرات التي لا يخلو صاحب المرتبة الأولى منها . إنها أقصى السعادات التي تتجاوز الجسم والمال و خيرات الدنيا إلا ما يحتاجه البدن . وحتى داخل هذه الرتبة الأخيرة هناك رتب أخرى تتفاوت بحسب استعداد أصحابها واجتهادهم .
ويرى الفارابي أن أخص الخيرات بالإنسان عقله، لأنه به صار إنسانا، وبه يقف على الحق والباطل.. وبالتالي فهو سبيل السعادة . وبما أن الفلسفة تلزم الإنسان باستعمال العقل ، فالاشتغال بها يؤِدي إلى السعادة . وبناء على ما سبق فاللذة العقلية هي مصدر السعادة .
هكذا يجمع الفلاسفة المسلمون على أن السعادة تتمثل في المعرفة واكتشاف الحقيقة ، حقيقة الذات والعالم …لكن هل طريق المعرفة هو العقل فقط - كما يعتقد الفلاسفة - أم هناك طريق آخر يتجاوز العقل ؟ فما هو إذن هذا الطريق ؟ وهل المعرفة كافية وحدها لبلوغ السعادة أم تحتاج إلى سلوك ..؟
- السعادة إرضاء للقلب : السهروردي – ابن عربي
على عكس اعتقاد الفلاسفة ، يرى الصوفيون - أهل الولاية والعرفان و أرباب القلوب- أن السعادة سعادة القلب . فهذا السهروردي يرى أن صحبة شيخ عارف هي الطريق إلى السعادة . يتمثل عمل الشيخ في تحبيب الله إلى عباده والعكلا ، وذلك لأنه يسلك بالمريد طريق رسول الله e ليحبه الله . ويسلك به طريق التزكية ، أي تطهير النفس وانجلاء القلب ، ليصبح مستعدا لانعكاس أنوار العظمة الإلهية … ليحب العبـُد ربه . فيحب الباقي ويزهد في الفاني … وبذلك يرفع عن قلبه الحجب ، وتتوالى عليه فتوح الغيب .. وكل ذلك لا يكون إلا بالمكابدة والمجاهدة والإخلاص والوفاء بالشروط ، لينتقل من هذا الحال إلى حال السعادة . يقول : "… فوجد العسل بعد العلقم ، وترَوحَ بنسمات الفضل ، وبرز من مضيق المكابدة إلى متسع المساهلة ، وأونس بنفحات القرب، وفتح له باب المشاهدة، فوجد دواءه، وفاض وعاؤه، وصدرت منه كلمات الحكمة…".
ويرى محيي الدين بن عربي أن القلب هو سبيل السعادة و ليس العقل . فالقلب من رحمة الله . وإذا وسع الله القلب وملأه ، فإنه لا يسع غيره ، وهكذا يتجلى له فيعرفه . فهذا هو الإنسان العارف أو الكامل . وهذه هي السعادة العظمى، لأنها ترتبط بمشاهدة تجلي الحق في مرآة قلب العارف ، بعيدا عن منطق الفلاسفة وأقيستهم ومقولاتهم. إنها انتقال من مقام إلى مقام ، ومن حال إلى حال وصولا إلى السعادة العظمى ، والتي ليست مجرد معارف يتم تكديسها ، إنها سلوك وتجربة روحية ومجاهدة للنفس . ويعبر أبو حامد الغزالي عن ذلك في تعريفه للتصوف قائلا: " وحاصل علومهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله (…)إنهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال."
هكذا يتفق المفكرون المسلمون سواء كانوا فلاسفة أو متصوفة على أن السعادة الحقيقة هي سعادة النفس لا البدن . ترجع أسس هذا التصور إلى النظر إلى الإنسان باعتباره ثنائي التكوين : نفس وبدن . ولأن البدن يشترك فيه مع كائنات أخرى ، ولأنه يشير إلى الرغبة والشهوة وغيرها فقد تم تمجيد النفس . وبالتالي تتمثل السعادة في القدرة على تزكية النفس وتطهيرها من عوائق البدن والشهوات الدنيئة ، وهو السبيل لتقبل الفضائل ، وتحصيل السعادة، لكن هل تحصيلها يتم في عزلة وانقطاع عن الجماعة ، أم داخلها ؟ وهل تلغي سعادة الدار الآخرة السعادة على الأرض ؟
3- السعادة : تدبير للفرد أم للمدينة ؟
إذا كانت السعادة تبعا لما سبق هي سعادة النفس فإن مفكري الإسلام حرصوا على ألا تكون بمعزل عن الجماعة . فمسكويه يربط بين السعادة والقدرة على الفعل، وعلى الإرادة والاختيار بين الخير والشر وبين الجميل والقبيح، ولهذا فهي لا يجب أن تكون حاصل اتفاق وصدفة. وإنما هي جهد ومواظبة ومثابرة .. وتربية تقوم فيها الشـريعة بالدور الأساسي، حيث يعمل الوالدان على إعداد الأحداث (الأطفال) لقبول الحكمة وطلب الفضائل وبلوغ السعادة بالفكر الصحيح والقياس المستقيم والآداب الجميلة ، آخذين في ذلك بشتى ضروب سياسات الثواب والعقاب.
إن ارتباط السعادة بالعلم والتعلم والعمل يفترض أنها مطلب اجتماعي . لذلك يعارض مسكويه بشدة التصور الصوفي، خصوصا في جانبه الانعزالي . ويعتبره خروجا عن العقل والواقع وضربا من الكلال ومحبة الراحة ، ويرى أنهما أعظم الرذائل لأنهما يسلخان الإنسان من إنسانيته . إن حقيقة الفضائل إنما تتم بمخالطة الناس، وليس بملازمة الفرد لمغارة أو كهف أو جبل، فلا عفة أو نجدة أو سخاء أو عدالة دون مخالطة أو مساكنة، ويؤكد أخيرا أن الفضائل أعمال وأفعال تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم ، " وليست الفضائل أعداما ".
و الفارابي هو الآخر يرى أن تحصيل السعادة الحقيقية إنما يكون باجتماع الأفراد ، أهل المدينة كشكل من أشكال الاجتماع الإنساني القائم هو الآخر على الاختيار والإرادة . ويقصد من المدينة التعاون على بلوغ السعادة ، وهذه هي المدينة الفاضلة . ويشبهها بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه المختلفة تحت قيادة رئيسها القلب . وبالتالي فالسعادة في هذا المقام ترتبط بالأرض كما ترتبط بالجماعة .
هكذا تغدو السعادة في مفهومها الإسلامي تعاليا على اللذات الحسية وبحثا عن الكمال الأخلاقي، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة، إنها إرادة نحو إسعاد الذات والآخرين، وهي إرادة ترتبط بالمعرفة وبالعقل وأيضا بالشرع الذي يروم إسعاد البشر، ليس فقط سعادة أرضية، ولكن أيضا سعادة أخروية.