إذا ارتحلنا معاً للقرن الرابع الهجري والقرن الخامس فسوف ترون البيروني «ت440هـ» يقوم بالاطلاع المباشر على المراجع المتوافرة باللغة السنسكريتية و هذا يدل على أن
الرياضيات قد ازدهرت عند المسلمين وتقدمت المعرفة عن العصور الكونية الكبرى وقطع المسلمون شوطاً واسعاً في معادلات حساب المثلثات، وعلى سبيل المثال فإن «الكرجي ت430هـ» و«السموأل ت 570هـ» قد انتهيا إلى قوانين الأسس، وعلى عكس ما تقرر الروايات الأوروبية، فقد سبق علماء المسلمين «باسكال» في استخدام طريقة الاستنتاج الرياضي في جمع بعض المتواليات.
لقد قام علماؤنا أيضاً- إضافة إلى الابتكار والإضافة الحضارية- بدور الوعاء الحافظ للحضارة؛ ولذا فإنه في كثير من الحالات كانت الترجمات العربية هي المصدر العلمي الوحيد الهائل لما ألّفه عدد من المؤلّفين القدماء، فكان لهؤلاء العلماء المترجمين من أعلامنا، وللبيئة والمناخ العلمي المتقدم، فضل الحفاظ على هذه الكنوز من الإرث العلمي للبشرية، بعد أن ضاعت أصولها الإغريقية، بل قام هؤلاء بالاحتفاظ بالمؤلفات القديمة التي تخطّاها العلم بوضوح، فقاموا بنسخ أصول تلك المؤلفات حتى تظل مكتباتهم العلمية، كما يحدث اليوم، محتفظة بالكتب التي تمثل أصولاً عريقة للعلم القديم.
إن المجتمع التقني العالمي، وسائر المجتمعات التي تنوي اللحاق أو المنافسة مستقبلاً، تتطلب «استخداماً يومياً لمهارات: مثل التقدير التقريبي، وحلّ المسائل وتفسير البيانات والقياس والتنبؤ، وتطبيق الرياضيات على المواقف الحياتية».
وكذلك فإن احتياجات المجتمع المتجددة، وانفجار البيانات الكمية سوف يستدعي أكثر فأكثر ميلاد أجيال جديدة تنجح منذ خط البداية في التعرف إلى الأولويات الخاصة بالمهارات الرياضية الأساسية. و بالتالي يجب الاهتمام بالجانب النظري والجانب العملي فإنه يترتب عليها مواقف الطلاب من العلم بعامة ومن فروعه المختلفة- ومنها الرياضيات- بخاصة، تلك التي تتلفع في نظر المجتمع العام والمجتمع الطلابي خاصة بالصعوبة والغموض إلى حد الاغتراب أو الإعراض أو اليأس منها(!) في كثير من الأحيان.
إن معالجة القضايا التي ظلت لزمن طويل غير ذات بال للمجتمع ستقع في أغلبها على عاتق علماء الرياضيات ثم من يليهم من القائمين على تعليمها، وجهودهم المنظمة المتجددة الناقدة المطوّرة الواعية في هذا السبيل. إن هذه المعالجات لقضايا المجتمع ستقضي على تلك النظرة الزائفة التي تقدم الرياضيات على أنها علم نشأ في برج عاجي لا صلة له بالحياة العملية وبالنشاط الإنتاجي للإنسان؛ فمن المؤكد أن دراسة تاريخ العلوم وتاريخ الرياضيات توضح أن ازدهار الحضارات قد ارتبط بازدهار العلوم الرياضية. إننا نَدْرس الرياضيات، وندرّسها لأبنائنا، وينبغي أن نستفيد من أهم ما تمنحه دراسة الرياضيات لصاحبها: تصحيح عملية التفكير.
إن دارس الرياضيات ينبغي له أن يتعلم منها- إلى جانب التفكير الصحيح- الخلق الحسن، والصبر، والأناة...إلخ، فالمسائل المعقدة تحتاج حتى تُحلّ إلى صبر وإعمال فكر، والخطوط والزوايا والأرقام لا تصيح، ولا تعضّ، ولا تتأثر بالترغيب والترهيب، فالحقائق موجودة هناك، ومن يبرهن عليها، ويكشفها بنور العقل تمكّنه من نفسها، ويقدر على تسخيرها والانتفاع منها.
ثم إني أودّ التركيز على إبراز أهمية قدرة المعلمين على تقويم مستوى الطلاب، والتوصّل إلى حكم صائب على قدراتهم، ويسبق ذلك- بكل تأكيد- التثبت من فهم المعلّمين أنفسهم للمواد التي يقومون بتدريسها في مجال الرياضيات، ومن قدرتهم - في الوقت نفسه- على الفهم الواسع العميق لطلابهم؛ فكيف يتسنى لمعلم أن يقوم بتقويمٍ ما لطلابه مالم يكن مزوّداً بالمعرفة الكافية لكل من طالبه ومادته.
بل كيف يتسنى لنا إدراك ما يعتري العملية التعليمية من صعوبات في المناهج أو تطوير طرق أدائها مالم يكن المعلّم-وهو الواقف في المواقع الأمامية -راغباً وقادراً على تقويم ما يحدث أمامه فيما بين المنهج والمتعلّم.
و من المهم إبراز البيئة على أنها عنصر مكاني محفّز لدراسة الرياضيات، عن طريق الحوار بشأن المناهج التي تتفاعل مع البيئة المدرسية وما حولها.
و جميل أن نشجع إقامة منتديات و جماعات الرياضيات ، لأن لها أهداف كبيرة منها :
أولاً: إبراز قيمتها في حياتنا العملية، وفي العالم، وفي صناعة المجتمع، وإغنائه وتقدمه، مراعين القيمة العظمى لإثارة وإبراز التحدي الحضاري الذي يواجهنا.
وثانياً: إحياء التاريخ العلمي الحضاري في أمتنا بالتعرف الدقيق على علمائنا، خصوصاً في الرياضيات، في مختلف العصور، وعلى منجزاتهم الثمينة في هذا المجال، وإثبات آثارها في الحضارة الحالية، وذلك بالتغذية المكتبية المتخصصة، والندوات، والمسابقات، والجوائز، وتشجيع الطلاب على إعداد البحوث عن علماء الرياضيات من العرب والمسلمين، وعلى محاضرة زملائهم في موضوعات الرياضيات وآثارها العملية في الماضي والحاضر واحتمالاتها المستقبلية، ودعوة رجال الإعلام للمشاركة في إثارة الاهتمام بالرياضيات.
وثالثاً: اتخاذ هذه الجماعات و النواد و المنتديات فرصة ثمينة لاكتشاف الموهوبين، وتوجيه من تُكتشف استعداداته في هذا المجال، بل وتتبّعه خلال السنوات التالية امتداداً للدراسة الجامعية وما بعدها، بحيث يستمر التواصل بينها وطلابها، حتى لو وصلوا إلى درجة الأستاذية والابتكار العلمي والاختراع العملي فيما بعد.
لا أجد ما أختم به كلمتي أعظم من ذلك الدعاء بفيضه المضيء، وحراسته الأمينة لآفاق التعلم والاستفادة، بتسديده خطى الضمير الداخلي في ساحات العلوم لصيانة مقاصد التعليم.
من مقالات : محمد الرشيد( بتصرف)
الله على الرياضيات
الرياضيات قد ازدهرت عند المسلمين وتقدمت المعرفة عن العصور الكونية الكبرى وقطع المسلمون شوطاً واسعاً في معادلات حساب المثلثات، وعلى سبيل المثال فإن «الكرجي ت430هـ» و«السموأل ت 570هـ» قد انتهيا إلى قوانين الأسس، وعلى عكس ما تقرر الروايات الأوروبية، فقد سبق علماء المسلمين «باسكال» في استخدام طريقة الاستنتاج الرياضي في جمع بعض المتواليات.
لقد قام علماؤنا أيضاً- إضافة إلى الابتكار والإضافة الحضارية- بدور الوعاء الحافظ للحضارة؛ ولذا فإنه في كثير من الحالات كانت الترجمات العربية هي المصدر العلمي الوحيد الهائل لما ألّفه عدد من المؤلّفين القدماء، فكان لهؤلاء العلماء المترجمين من أعلامنا، وللبيئة والمناخ العلمي المتقدم، فضل الحفاظ على هذه الكنوز من الإرث العلمي للبشرية، بعد أن ضاعت أصولها الإغريقية، بل قام هؤلاء بالاحتفاظ بالمؤلفات القديمة التي تخطّاها العلم بوضوح، فقاموا بنسخ أصول تلك المؤلفات حتى تظل مكتباتهم العلمية، كما يحدث اليوم، محتفظة بالكتب التي تمثل أصولاً عريقة للعلم القديم.
إن المجتمع التقني العالمي، وسائر المجتمعات التي تنوي اللحاق أو المنافسة مستقبلاً، تتطلب «استخداماً يومياً لمهارات: مثل التقدير التقريبي، وحلّ المسائل وتفسير البيانات والقياس والتنبؤ، وتطبيق الرياضيات على المواقف الحياتية».
وكذلك فإن احتياجات المجتمع المتجددة، وانفجار البيانات الكمية سوف يستدعي أكثر فأكثر ميلاد أجيال جديدة تنجح منذ خط البداية في التعرف إلى الأولويات الخاصة بالمهارات الرياضية الأساسية. و بالتالي يجب الاهتمام بالجانب النظري والجانب العملي فإنه يترتب عليها مواقف الطلاب من العلم بعامة ومن فروعه المختلفة- ومنها الرياضيات- بخاصة، تلك التي تتلفع في نظر المجتمع العام والمجتمع الطلابي خاصة بالصعوبة والغموض إلى حد الاغتراب أو الإعراض أو اليأس منها(!) في كثير من الأحيان.
إن معالجة القضايا التي ظلت لزمن طويل غير ذات بال للمجتمع ستقع في أغلبها على عاتق علماء الرياضيات ثم من يليهم من القائمين على تعليمها، وجهودهم المنظمة المتجددة الناقدة المطوّرة الواعية في هذا السبيل. إن هذه المعالجات لقضايا المجتمع ستقضي على تلك النظرة الزائفة التي تقدم الرياضيات على أنها علم نشأ في برج عاجي لا صلة له بالحياة العملية وبالنشاط الإنتاجي للإنسان؛ فمن المؤكد أن دراسة تاريخ العلوم وتاريخ الرياضيات توضح أن ازدهار الحضارات قد ارتبط بازدهار العلوم الرياضية. إننا نَدْرس الرياضيات، وندرّسها لأبنائنا، وينبغي أن نستفيد من أهم ما تمنحه دراسة الرياضيات لصاحبها: تصحيح عملية التفكير.
إن دارس الرياضيات ينبغي له أن يتعلم منها- إلى جانب التفكير الصحيح- الخلق الحسن، والصبر، والأناة...إلخ، فالمسائل المعقدة تحتاج حتى تُحلّ إلى صبر وإعمال فكر، والخطوط والزوايا والأرقام لا تصيح، ولا تعضّ، ولا تتأثر بالترغيب والترهيب، فالحقائق موجودة هناك، ومن يبرهن عليها، ويكشفها بنور العقل تمكّنه من نفسها، ويقدر على تسخيرها والانتفاع منها.
ثم إني أودّ التركيز على إبراز أهمية قدرة المعلمين على تقويم مستوى الطلاب، والتوصّل إلى حكم صائب على قدراتهم، ويسبق ذلك- بكل تأكيد- التثبت من فهم المعلّمين أنفسهم للمواد التي يقومون بتدريسها في مجال الرياضيات، ومن قدرتهم - في الوقت نفسه- على الفهم الواسع العميق لطلابهم؛ فكيف يتسنى لمعلم أن يقوم بتقويمٍ ما لطلابه مالم يكن مزوّداً بالمعرفة الكافية لكل من طالبه ومادته.
بل كيف يتسنى لنا إدراك ما يعتري العملية التعليمية من صعوبات في المناهج أو تطوير طرق أدائها مالم يكن المعلّم-وهو الواقف في المواقع الأمامية -راغباً وقادراً على تقويم ما يحدث أمامه فيما بين المنهج والمتعلّم.
و من المهم إبراز البيئة على أنها عنصر مكاني محفّز لدراسة الرياضيات، عن طريق الحوار بشأن المناهج التي تتفاعل مع البيئة المدرسية وما حولها.
و جميل أن نشجع إقامة منتديات و جماعات الرياضيات ، لأن لها أهداف كبيرة منها :
أولاً: إبراز قيمتها في حياتنا العملية، وفي العالم، وفي صناعة المجتمع، وإغنائه وتقدمه، مراعين القيمة العظمى لإثارة وإبراز التحدي الحضاري الذي يواجهنا.
وثانياً: إحياء التاريخ العلمي الحضاري في أمتنا بالتعرف الدقيق على علمائنا، خصوصاً في الرياضيات، في مختلف العصور، وعلى منجزاتهم الثمينة في هذا المجال، وإثبات آثارها في الحضارة الحالية، وذلك بالتغذية المكتبية المتخصصة، والندوات، والمسابقات، والجوائز، وتشجيع الطلاب على إعداد البحوث عن علماء الرياضيات من العرب والمسلمين، وعلى محاضرة زملائهم في موضوعات الرياضيات وآثارها العملية في الماضي والحاضر واحتمالاتها المستقبلية، ودعوة رجال الإعلام للمشاركة في إثارة الاهتمام بالرياضيات.
وثالثاً: اتخاذ هذه الجماعات و النواد و المنتديات فرصة ثمينة لاكتشاف الموهوبين، وتوجيه من تُكتشف استعداداته في هذا المجال، بل وتتبّعه خلال السنوات التالية امتداداً للدراسة الجامعية وما بعدها، بحيث يستمر التواصل بينها وطلابها، حتى لو وصلوا إلى درجة الأستاذية والابتكار العلمي والاختراع العملي فيما بعد.
لا أجد ما أختم به كلمتي أعظم من ذلك الدعاء بفيضه المضيء، وحراسته الأمينة لآفاق التعلم والاستفادة، بتسديده خطى الضمير الداخلي في ساحات العلوم لصيانة مقاصد التعليم.
من مقالات : محمد الرشيد( بتصرف)
الله على الرياضيات