النار: استخدامها وإنتاجها
إن أعظم التطورات التقنية للإنسان المنتصب كان تعلم تدبير النار، ونجد أول دليل على استخدام النار في الصين حوالي عام 600.000 ق.م، ولكنه لا يدل على وجود القدرة على توليدها، ويرجّح ألا يكون الإنسان المنتصب قد توصّل إلى توليد النار قط. بالرغم من هذا تبقى قدرته على استخدامها مكلاباً هائلاً، بل أهم تغير فريد في التقنية قبل قدوم الزراعة. وقد كان ذلك أول استغلال كيميائي للطاقة بطريقة مختلفة عن عملية تحويل الطعام داخل الجسم.
ونجد عند كثير من الشعوب أساطير عن أبطال أو حيوانات سحرية استولت على النار للمرة الأولى من الآلهة عادة، وربما كان هذا إبرازاً لذكرى بعيدة عن أن النار الأولى قد أخذت من مصدر طبيعي، مثل نشاط البراكين أو اندفاعات الغاز الطبيعي أو حرائق الغابات.
الحصول على النار من حرائق الغابات
كان استخدام النار على كل حال عملية ثورية، وعلينا ألا ننس أنها استغرقت مئات الألوف من السنين لكي يظهر تأثيرها الكامل. ومن النتائج المباشرة للنار أنها وفرت الدفء والنور والتغلب على البرد والعتمة، فضمنت من ثم تأقلم الإنسان مع البيئة الباردة والمعتمة ولو بصورة ضئيلة في البداية، فقد صارت العائلات قادرة على العيش في مناطق أبرد من ذي قبل، كما سهّلت قليلاً حياتها في المناطق المعتدلة، وسمحت بسكن الكهوف المعتمة ومن ثم بوقاية أفضل من الطقس، كما صار بالإمكان طرد الحيوانات من ملاجئها وإبقاؤها خارجاً، وربما نشأت من هنا فكرة استخدام النار لملاحقة الحيوانات الكبيرة في الصيد.
ومكنت النار أيضاً من تقسية الرماح الخشبية، ومن الطبخ، فصار تناول الطعام أسهل، فامتصاص نقي العظام أصبح أمراً ممكناً بعد طبخها، بعد أن كانت عملية شاقة جداً وهي نيئة. لهذا نرى الحيوان والغوريلا يقضيان جزءاً كبيراً من وقتهما في مضغ الطعام النيئ، في حين يوفر الطبخ الوقت الذي يقضيه الكائن بمضغ الطعام وهو نيئ. والأهم من هذا فإن الطبخ يمكّن من تناول أنواع من الطعام لا يمكن أكلها وهي نيئة، أو نباتات كريهة مرة الطعم، ولابد أن يكون هذا قد زاد من موارد الطعام، وبالتالي سهّل نمو عدد السكان قليلاً، وربما حفز الانتباه أيضاً إلى تنوع الحياة النباتية وتوفرها، فكان بداية علم النبات وفن الطبخ. وأخيراً فإن تناول الطعام المطهو قد ساهم على المدى الطويل في تغير شكل الوجه والأسنان.
وربما ساهم الطبخ أيضاً في كبح الدوافع الآنية، لأن تأجيل الأكل يمنع إشباع الشهية الآني بابتلاع الطعام نيئاً، وإن وجود نار الطبخ كمصدر للضوء والدفء يلم الناس من حوله بعد حلول الظلام، ويزيد من وعي المجموعة بنفسها كجماعة مشتركة، ولابد أن يتكلموا فيما بينهم بطريقة ما، فيتسارع تطور اللغة التي لا نعرف عن أصولها إلا القليل. وأخيراً سببت النار تمايزات جديدة بين أفراد الجماعة، إذ ظهر في وقت من الأوقات حملة النار والمختصون بها، وهم أفراد ذوو أهمية مهيبة وسرية، لأن حياة بقية الجماعة وموتها قد يعتمدان عليهم. كان هؤلاء يحملون الأداة المحررة العظيمة ويحرسونها، ويتحكمون بقدرتها من أجل تحطيم الإيقاع القاسي لليل والنهار بل للفصول أيضاً.
نرى إذن أن ظهور النار خلال عصر الإنسان المنتصب قد خفّف قليلاً من ضغوط الإيقاعات الخارجية الكبرى لعالم الطبيعة على حياة البشريات، فصارت الحياة الآن أقل روتينية وآلية مما كانت عليه عند قرد الجنوب، وباتت بعيدة جداً عن حياة الحيوانات التي لا يحكم سلوكها إلا ما وهبتها الطبيعة من غرائز وجينات. لقد كان بإمكان الإنسان المنتصب أن يختار، وهذه هي خير حجة تسمح لنا أن نقول إن هذا النوع كان أقرب إلى الإنسان مهما كانت الحدود بين القردة والبشر، ومهما بدت حياته مقيدة وتعيسة.