أحمد دحبور (1365 هـ - ) (21/4/1946م - )
نبذة تاريخية
ولد أحمد خضر دحبور في "حيفا" بالشمال الفلسطيني، وبعد نكبة عام 1948م اضطر أهله للهجرة إلى لبنان ومنها إلى سورية، نشأ ودرس في مخيم للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة "حمص". انضم إلى إحدى حركات النضال الوطني الفلسطيني وكرّس شعره لقضية الوطن المغتصب. عمل مديراً لتحرير مجلة "لوتس" حتى عام 1988م ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطيني وعضو في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين. استقر في تونس منذ عام 1983م.
يكتب الشعر الحر، ويتراوح أحياناً بين الشعر والنثر محاولاً توليد أوزان خاصة في القصيدة الواحدة، ويغلب على شعره الحس التجريبي الذي يؤدي به إلى الغموض، كما يميل إلى الاسترسال في البث مما جعل أكثر قصائده تغرق في الطّول غير المبرّر فنياً وموضوعياً.
أعماله:
1-الضواري وعيون الأطفال / شعر (مطبعة الأندلس، حمص، 1964م)
2-حكاية الولد الفلسطيني (دار العودة، بيروت، 1971م).
3-طائر الوحدات / شعر (دار الآداب، بيروت، 1973م).
4-بغير هذا جئت / شعر (اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، 1977م).
5-اختلاط الليل والنهار / شعر (دار العودة، بيروت، 1979م).
6-واحد وعشرون بحراً / شعر (دار العودة، بيروت، 1980م).
7-شهادة بالأصابع الخمس / شعر (1982م).
8-كلاور عشرية / شعر (1992م).
9-ديوان أحمد دحبور / تتضمن مجموعاته الشعرية السبع الأولى (دار العودة، بيروت، 1983م).
البداية
الشعر الفلسطيني و اللاجئون
أحمد دحبور*
مقدمة
ما من مرة سمعت فيها بنشاط إنساني يتعلق باللاجئين، إلا وتبادر إلى ذهني سؤال متسرع: وهل يوجد في الدنيا لاجئون سوانا؟.. ثم أستدرك أن التشريد والتطهير العرقي واللجوء الجمعي هي من أكثر الظواهر الناجمة عن العدوان والاستعمار شيوعاً. في أفريقيا، في آسيا. بل إن أوروبا عرفت ذلك النوع من التشريد، ولم تكن البوسنة والهرسك إلا مثالاً، من غير أن يغيب عن الذاكرة العادلة تلك المآسي التي صنعها النازي مشرداً ملايين اليهود والمسيحيين على حد سواء. أما الأيام الراهنة فتقص علينا بالدم والألم أنباء الشعب العراقي. وكان للفلسطينيين حصة، بطبيعة الحال، في هوجة التشريد التي شهدها العراق.
وإذا كان ما تقدم صحيحاً. وهو صحيح ما في ذلك شك. فمن أين يأتينا الإحساس بأن اللاجئين كلمة خاصة بالفلسطينيين؟ وقد أضغط على الذاكرة فتنفرج عن صور قاتمة مليئة بالدموع والحسرة كان الأهل يعرضونها على مسامعنا حتى نكاد نراها. فكأنهم كانوا على موعد مع معنى اللجوء منذ لحظة الهجرة الأولى. أيعود ذلك إلى إحساسهم منذ يوم النكبة أن الأيام السبعة التي وعدهم الحكام العرب بإعادتهم إلى بيوتهم خلالها، ستمتد سبعة بعد حتى تصل إلى عشرات السنين؟
وقد أزيد فأتذكر أول يوم سمعت فيه باسم الشاعر إبراهيم طوقان، متبوعاً بأنه فلسطيني من نابلس. فاستغربت سائلاً عمتي المتزوجة في نابلس ـ وكانت تزورنا باستمرار في مخيمنا، جنوب مدينة حمص السورية ـ كيف يكون إبراهيم طوقان شاعراً وهو ليس لاجئاً مثلنا؟ فاللاجئ في مخيلة الطفل الذي كنت هو الفلسطيني بالضرورة، وطبيعي أن أكون قد طرحت سؤالي البريء على عمتي، قبل هزيمة 1967. أي قبل وقوع نابلس تحت الاحتلال. فكأن الاحتلال واللجوء هما من العلامات المميزة ـ في وعيي الطري البسيط يوم ذاك ـ للشعب الفلسطيني الذي إليه أنتمي. وكان علي أن أتذكر دائماً، وبصورة يومية، صفوف تلاميذ مدرستنا الابتدائية وهم ينشدون فلسطين ويؤكدون أننا عائدون. فيما كان أساتذتنا يخطبون بغضب ووعيد. أما في البيوت فكان آباؤنا وأمهاتنا يبكون. وعلى المستوى الشخصي كانت أمي تعيد لي رسم صورة الأرض من منظور الأعجوبة والفاجعة والفرح المأمول البعيد الذي أسمه حيفا.. ولا أذكر، عندما بدأت أقرزم الشعر، وأنا على مقاعد الابتدائية، أنني كتبت من الكلام الذي صادفه الوزن شيئاً قبل.
نحن أبناء المجيدة نحن من حيفا الشهيدة
ومع رنين هذه الكلمات الساذجة البريئة، تطور السؤال فيما بعد: كيف كانت ظاهرة اللاجئين في الشعر العربي الفلسطيني؟ وحتى لا يكون هناك التباس ـ من أولها ـ أشدد على أنني أقصد ظاهرة اللاجئين وتداعياتها، وليست ظاهرة النكبة بالمطلق، غير غافل عن أن مأساة اللجوء هي العلامة الكبرى في حقل هذا الحدث التاريخي الأسود.
توقع ومواكبة:
منذ وعد بلفور عام 1917، أصبح الهاجس الأكبر لدى النخب السياسية والثقافية الفلسطينية هو الخوف على الأرض. بل إن شاعراً مثل إبراهيم طوقان، كان يشير صراحة، قبل وقوع الحرب العالمية الثانية. بخمسة أعوام، إلى احتمال طرد الشعب الفلسطيني من أرضه. وكان طوقان يحذر من مظاهر الرفاهية المخادعة في فلسطين، فهي ليست إلا قشرة براقة تخفي وراءها الكارثة:
ليست فلسطين الرخية غير مهد للشقاء
عرضت لكم خلف الزجاج تميس في حال البهاء
فاليوم أمرح كاسياً وغداً سأنبذ في العراء
وفي قصيدة ثانية، يشير إلى أن خطر الاقتلاع يهدد الفقراء والأغنياء معاً:
فلا رحب القصور غداً بباق لساكنه ولا ضيق الخصاص
وتوفي إبراهيم طوقان عام 1941، قبل أن تتحقق نبوءته السوداء بسبع سنوات. ومن المفارقات أن يكون رحيله في الشهر الخامس الميلادي الذي شهد عام 1948 وقوع النكبة وولادة ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين. وإذا كان الموت لم يمهل هذا الشاعر الكبير ليواكب مأساة اللاجئين التي سبق الآخرين إلى التنبؤ بها، فإن صديق عمره أبا سلمى، عبد الكريم الكرمي، قد عاش هذه المأساة. فلجأ ـ وهو ابن طولكرم الذي كان في حيفا ـ إلى دمشق. ومن هناك أرسل قصائد الحنين والتفجع والأمل إلى كل فلسطيني وعربي:
إلى أمتي وأرضنا تنتظر؟ طال السرى وما أطل القمر
أسأل عن أهلي ومن يسمعني أين بقايا الأهل؟ هل هم بشر؟
الغرباء في ربوع أهلهم يبكي على أهلي الدجى والحجر
ولسوف تستولي الفجيعة، من خلال ظاهرة اللاجئين، على المشهد الشعري الفلسطيني، ولا سيما في تلك السنوات العجاف التي سبقت ظهور منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة. وكانت الإشارة إلى اللاجئين تبدأ بعناوين مجموعات بعض الشعراء. فهذا أبو سلمى يصدر ديوان "المشرد"، أما يوسف الخطيب، فإن عنوان مجموعته المميزة المبكرة، هو "عائدون". ولعل أول مجموعة فلسطينية تنطلق من مأساة اللاجئين، كانت للشاعر هارون هاشم رشيد، وهي "مع الغرباء"، وقد صدرت عام 1954. وهناك مجموعات تشير عناوينها إلى الجرح الفلسطيني بصورة مطلقة، مثل "فلسطين على الصليب" للشاعر معين بسيسو، و"حيفا في سواد العيون" للشاعر حسن البحيري، و"كلمات فلسطينية" للشاعر الحيفاوي حسن النجمي. أما الشاعرة فدوى طوقان، فهي وإن لم تخصص عنواناً مباشراً في مجموعاتها الشعرية للاجئين، إلا أنها كتبت القصائد المتميزة التي تناقلتها الأجيال العربية من مقاعد الدراسة إلى أطروحات البحث، فهي صاحبة القصيدة الشهيرة "مع لاجئة في العيد" التي تقول فيها:
أختاه هذا العيد رف سناه في روح الوجود
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالاً شقياً
متهالكاً، يطوي وراء هموده ألماً عتيا
يرنو إلى اللاشيء منسرحاً مع الأفق البعيد
وتنهي القصيدة بصرخة مباغتة، معتبرة هذا العيد، خارج فلسطين، ليس إلا "عيد الميتين".
واللافت في الشعر المبكر الذي كتبه الفلسطينيون حول النكبة واللاجئين، أن النداء يتجه إلى الأخت الفلسطينية. وهي إعادة إنتاج لفكرة الثأر وإثارة الحمية من خلال الحرائر اللواتي يحرضن الفرسان على حماية الأرض والعرض. وإذا كان هذا الخطاب يتميز بالشجن والأسى، فإنه فيه أملاً بالعودة مشوباً بالحزن الرخيم، كما في أنشودة هارون رشيد الفيروزية الشائقة:
سنرجع يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع أخبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
وهي لحظة مركبة محيرة. فبقدر ما فيها من ثقة الرجوع، يئن فيها صوت المشرد الجريح.
صورة اللجوء:
على أننا ملزمون، قبل متابعة أوديسة اللجوء الفلسطينية، أن نرصد البدايات، وكيف صور الشعراء لحظة الخروج من الوطن. وهي لحظة مرتبطة بالأسرة، حيث يتنادى الأب والأم والأولاد، وكل منهم خائف على الآخرين، كما في هذا المشهد البسيط الذي سجله عبد الرحيم عمر في قصيدة "الرحيل عن جيوس".
عبد الرحيم
لبِّ استغاثة فاطمة
... ما هكذا كنا أردنا الخاتمة
أما توفيق صايغ، هذا الفلسطيني الأوديبي المنكود، فإن لحظة الخروج من طبريا، ستظل تلازمه طيلة حياته. وهو ما عبر عنه من خلال قصيدته الطويلة "معلقة توفيق صايغ". وأخطر ما في هذه القصيدة، من ناحية اللاجئين، أن المشهد عند الشاعر لا يأخذ طابعاً سياسياً أو وطنياً بالمعنى العام للكلمة. بل هو يأتي تلقائياً من خلال كشف الحساب العاطفي الطويل بين الشاعر وأمه. فهو يذكر بسالتها وقلقها عليه وعلى أخوته، فيذكرها، أو يناجيها فيما يتذكر معها:
من غرز الوتد الجديد ـ وغرس الشتلات وسقي الحبق ـ من حث من أضرم الإيمان ـ غير قلبك المنهك الصامد؟ ـ يوم تركنا الديار ـ ولم نحمل معنا ـ سوى الذكريات والمخاوف ـ وقام بين الديار وبيننا ـ سيف مديد عنيد.
وإذا كان الوطن الذي يبتعد عن أنظار اللاجئين، يحل عميقاً في قلوبهم، مرسخاً صورته من خلال الأسر المشردة المذعورة، المتنادية ـ مع ذلك ـ إلى التماسك بفعل قوة الروح عند الأم، فإن الابتعاد عن الوطن سيخلق واقعاً جديداً. لقد ولت أيام اليسر والبحبوحة. وها هي سلمى الخضراء الجيوسي التي كانت تردد مع أمها ذلك الغناء المزدهي بصفد: صفد يا عالية في رأس تلة، تجد نفسها، وهي لاجئة، جديدة العهد بالغربة، لا تستطيع أن تمنح المتسول صدقة، لأنها أصبحت في حاجة إلى تلك الدريهمات التي كانت تتصدق بها عن سعة وبسعادة:
منذ ذاك اليوم لم أمنح قروشي سائلاً
فبنو عمي أمسوا لاجئين
وإذا كانت إهانة اللجوء قد حرمت الشاعرة من ترف تقديم الصدقة، فإنها قد حالت بين الشباب والمرح. وقد تساءل عصام حماد عن معنى التشبيب والرقص والضحك، وهو يجول بين الثاكلات والمنكوبين:
أأرقص في مأتم الثاكلات وأضحك في النكبة الغامرة؟
ويلتقط هارون هاشم رشيد سؤال الطفل البريء، المتوجه إلى أبيه اللاجئ، مستغرباً أنهم يعيشون خلافاً للآخرين، غرباء مشردين، وذلك في إحدى الفيروزيات الشائقة:
لماذا نحن يا أبتي؟ لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون أصحاب وأحباب؟
أما أبو سلمى فإنه كان يجيل عينيه في المنفى، فلا يرى البلاد، وإذا كان الأصحاب والأحباب الذين سأل عنهم الطفل في قصيدة هارون موجودين، فإنهم يتساقطون حول أبى سلمى كأوراق شجرة في خريف. بعيدين عن التراب الذي هم منه ولكنهم لا يعودون إليه حسب القول المقدس: من التراب أتينا وإلى التراب نعود، وقد بكاهم أبو سلمى حتى التحق بهم:
كيف تبكي؟ وهل هناك دموع؟ ذهب الأهل والهوى والربيع
كل يوم أحبه تتهاوى وقبور غريبة وجموع
لا التراب الذي يضم شظاياهم تراب ولا الربوع ربوع
حتى القبور غريبة؟ ذلكم ما انتهى إليه جيل، بل أجيال من الفلسطينيين الذين لا يملكون إلا عناد الانتظار أو نقمته حسب تعبير جبرا إبراهيم جبرا في قصيدته "بيت من حجر":
وبين الليل والليل لا ـ نعرف إلا الانتظار ـ رباه جد علينا، ـ جد علينا، ـ بنقمة الانتظار..
والانتظار يتطلب معجزة البقاء على قيد الحياة، فكيف حقق الفلسطينيون هذه المعجزة؟
التفجع والحنين:
يلتقي الشعراء الفلسطينيون، الذين وعوا فجيعة النكبة من حيث العمر، على حس الفجيعة المشوب بالدهشة والاستنكار. يقول يوسف الخطيب:
وأنا الذي وطني ارتحال الشمس ملء الأرض،
لكني بلا وطن
منذا يصدقني؟
فيما يرفض حسن النجمي فكرة السؤال عن الوطن: "من أين؟... أتسخر من رجل؟ أبأطول رمح تطعنني؟". ولكنها الحقيقة. واللاجئون موزعون على المنافي. ويلفت النظر في هذه الظاهرة، على المستوى الشعري، أن اللجوء الفلسطيني أخذ بعداً رمزياً بموازاة وطأته الواقعية. وإذا كان أمثال أبى سلمى وحسن البحيري ومحمود الحوت قد ذاقوا مرارة الاقتلاع والتهجير مباشرة، بمغادرتهم حيفا ويافا، فإن آخرين مثل هارون هاشم رشيد وفدوى طوقان ويوسف الخطيب مثلاً، هم من غزة ونابلس والخليل، وهي مدن بقيت في يد العرب طيلة الفترة بين نكبة 1948 وهزيمة 1967. ولكن هذا لا يعني أن زلزال النكبة لم يعصف بهم، وأن مأساة اللاجئين لم تزعزعهم. على أن أشعارهم في ذلك لم تقف عند رصد لحظة اللجوء وتصويرها، بل حولت الخيمة إلى رمز للهزيمة التي يجب تجاوزها. وحين يكون الجرح على هذه الدرجة من الفداحة، فإن الألم ـ قبل التعالي على النكبة والبحث عن سبل التغلب على عواملها ـ سيأخذ مداه في الحنين إلى فلسطين، لا كفردوس أندلسي مفقود، بل كوطن لا تزال صورته ماثلة في الروح. وسيكثر في هذا الشعر مناجاة البلبل والعندليب والورد كرموز مجردة بدل وصف الأحياء والطرقات. لنقرأ، على سبيل المثال، من شعر يوسف الخطيب في هذا المجال:
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملتان من المثلث أو ربا صفد
فهذا حنين تاريخي وليس مجسداً. لهذا نراه ينتشر على غير مكان من الوطن:
المثلث، صفد. بينما نرى شاعراً مثل حسن البحيري كان في مدينته حيفا، وهو يحفظ صورة شاطئها وكرملها وشوارعها، لا يكف بعد النكبة عن وصف مغانيها، وهو يسميها جوسق الإلهام. وهو يمحضها حنينه المباشر:
حيفا وأنت مزاج الروح في رمقي وعمق جرح الهوى في موجعي الخفق
وصفو وجه غدير الغاب متشحاً غلالة من بقايا روعة الشفق
وقصة النبع تحكيها جداوله لنفح طيب غصون الزنبق العبق
فالغدير والغاب والنبع والجداول والزنبق هي عناصر طبيعية معينة، عرفها الشاعر وافتقدها في مهجره القسري. إن هذا لا يعني أن الشعراء الذين لم يهاجروا مباشرة، أيام النكبة، كانوا أقل حماسة وحنيناً. ولكنها المقارنة بين المجسد والمجرد. بل إن المجسد كالنبع والغدير وما إلى ذلك، سيلتحق بالمجرد في الشعر، من حيث هو مادة للحنين والتفجع تجعل الشعر الفلسطيني الذي واكب هذه المأساة يأتي من روافد مختلفة ـ حسب موقع كل شاعر جغرافياً ـ ويصب في نهر القضية التي تشمل الجميع. وسيكثر في هذا الشعر ترديد الخيام وتشخيص معاناة اللاجئين ويقينهم أنهم عائدون. كما في قول هارون هاشم رشيد:
أخي مهما أدلهم الليل سوف نطالع الفجرا
فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى
ويذكر أن كثيرين من الشعراء العرب غير الفلسطينيين قد كتبوا في هذا. ولعل قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب "قافلة الضياع" من أشهر الأمثلة على ذلك.
معاناة المنفى:
كان ولا يزال جرح الهجرة من الوطن هو الأعمق والأكثر إيلاماً، لدى الشاعر ـ وغير الشاعر ـ الفلسطيني. وإذا كان فيه مهانة وطنية وقومية، فإنه فيه، إلى ذلك، ألماً واقعياً ملموساً يتعلق بتبعات المنفى. فاللاجئ الفلسطيني ليس مجرد مواطن خسر أرضه ولو إلى حين، بل إنه بخسارة الأرض خسر أمانه الشخصي، حتى أنه أصبح عاجزاً عن التنقل بين البلاد كباقي البشر. وسيفاجئنا ـ ولماذا يفاجئنا؟ ـ توفيق صايغ المتهم بوقف شعره على التداعيات النفسية والباطنية، أن مشكلته كفلسطيني قد نهضت في وجهه، في وقت مبكر، بعيد النكبة بسنة أو اثنتين، من خلال جواز السفر المطلوب منه وهو لا يملكه:
اقتراب ولا دخول ـ وسعي ولا وصول ـ ولا تحمله فلا دخول
وينزل فوج ويصعد فوج. يتبدل الموظفون، ويعبر الجميع إلا الفلسطيني الذي يتساءل: "ماذا وشي بي؟ من وشي؟ ما تهمتي فأدفع تهمتي؟".
وفي مناخ الهجرة المتبلد، يحق للشاعر الفلسطيني أن يتساءل عما إذا كانت هذه الحياة حياة حقاً. تقول دعد الكيالي: أهذي حياة؟ نعيش الحياة ولسنا نعيش وتمضي الحياة. وتأتي كلثوم عرابي على معنى قريب في قصيدة "لاجئة":
أسائل ربي: ماذا جنيت لأرقد أرضاً كلااها التراب
وأسكن في خيمة من قماش رخيص وأرقب هذا الذباب؟
على أن المخيم والذباب والفقر والبطالة، ليست إلا مقدمات لما يلي من فواجع وإهانات ومذابح. فالفلسطيني ليس منسياً كما قد يتبادر إلى أذهان حتى المتشائمين. إنه في البال كمطلوب متهم بلا تهمة. حيث عليه أن يتهذب عشرين تهذيباً ـ على حد تعبير الشاعر مريد البرغوثي ـ بعدد الحكام العرب:
فإن أغضب واحدهم
أحل دماءك القانون
وإن أرضيت واحدهم
أحل دماءك الباقون
وعلى هذا، يملك شاعر مثل علي الخليلي أن يسخر حتى الدمعة، من واقع كهذا، فيصف الروح الفلسطينية المستباحة بالنفس المطمئنة أمام الباب المغلق: "وحدك وحدك تشربين وحل أحذيتهم الممزقة ـ وتفقدين خيالك الواسع كله فجأة ـ فتتحولين إلى قارضة". وليس هؤلاء الذين يهينون النفس الفلسطينية، اللاجئة غير المطمئنة، إلا الأهل، حيث الإهانات والخطر. بل إن العرافة في قصيدة فدوى طوقان تحذرها من غدر الأخوة بلا مواربة:
لكنما الرياح في هبوبها
تقول حاذري:
أخوتك السبعة
أما اللاجئون في ديارهم. أهلنا الذين بقوا في الوطن بعد النكبة، فشردهم الاحتلال من بيوتهم، وحرم عليهم مدنهم، فإن لمعاناتهم وقعاً آخر، إنهم مهاجرون مقيمون في لحظة واحدة قد تكون الأغرب في التاريخ. وها هو سالم جبران يمر بمدينة صفد، المدينة الفلسطينية، كما أنه فلسطيني، ولكنه عنها غريب:
غريب أنا يا صفد
وأنت غريبة
تشير البيوت هلا
ويأمرني ساكنوها ابتعد
وفي هذا الجو الكابوسي تنطلق صرخة محمود درويش التاريخية: سجل أنا عربي، ويناجي أم الأيتام الفلسطينية أمام حبال الغسيل: فلسطينية الميلاد والموت، ويؤكد توفيق زياد أنهم صامدون ـ كأننا عشرون مستحيل، فيما يهزج سميح القاسم: مثلما تنبض في الأرض الخصوبة ـ هكذا تنبض في قلبي العروبة.
لقد استطاعت الثقافة الفلسطينية، والشعر في طليعتها، حراسة الروح الوطنية الفلسطينية، فلم تتآكل بفعل الهجرة واللجوء، بل التقى الماء بالماء، الداخل بالخارج وحق لمحمود درويش أن يقول بكل زهو وكبرياء:
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة وعرس زلازل
التحدي والاستجابة:
كان لمخيم اللجوء، من وجهة الأعداء، مهمة محددة. هي أن ينقرض الفلسطينيون وينتهوا. وتمكنت روح الإبداع العنيدة من أن تطلق رسائل الحياة، فيقول شاعر مثل محمد القيسي من داخل المخيم:
ترى من يخبر الأحباب أنا ما نسيناهم؟
أما عز الدين المناصرة، فيناشد التربة الفلسطينية أن تعين الجسد الفلسطيني على المقاومة: ويا عنب الخليل الحر كن سماً على الأعداء. ويطلق خالد أبو خالد صرخته من "على الصليب" في الكويت، فتكلفه الصرخة أمانه وإقامته، ويطرده الحكام مع رفيقة عمره وبناته في ليلة ما فيها ضوء القمر، ويعترف للوطن بالألم ويعاهده على الاستمرار في العناد:
ويا وطني
أصارحك القول إنا تعبنا
ولكننا ما انعطبنا
ومن خلال هذه المعاناة. ومن داخل ظلموت القهر، تنطلق صرخة شاعر الغضب الفلسطيني يوسف الخطيب، فيزأر متوعداً مكابراً:
تحديت أن شعبي يباع، وأمتي شتات، وأن أغلي الحصى قوت أطفالي
لأبتدرن الصبح قبل اشتعاله وأورث في عمق السكينة زلزالي
والزلزال تعبير أثير لدى الشاعر الفلسطيني. هو ليس زلزالاً لفظياً يتوعد أعداء أقوياء متمكنين من احتلال أرضنا، بل هو مراجعة لمنطق المنطقة العربية في وضعها الراهن. فاللاجئ قنبلة موقوتة ـ لا كما يقول وزير خارجية العدو هذه الأيام بخطاب ديماغوجي، بل بما هو محاكمة لواقع ترفضه الحياة ـ في وجوه حكام مستسلمين، وصفهم الشاعر كمال ناصر بالعلوج، قبل أن يشيع هذا التعبير مؤخراً:
وفلسطين والجراح دوام كل علج عنها بها مشغول
وليس بعد ذلك إلا الثورة. فقد عنف الفلسطيني نفسه بما فيه الكفاية. وحاكم واقعه المضني، وأعلن بلسان يوسف الخطيب:
أنا حاقد، أنا مجرم أنا سيء حتى تعود إلى ذويها الدار
وسيبدو اللاجئ الفلسطيني كما لو كان ثائراً عبثياً. بل إنه أشبه بدون كيشوث لأول وهلة وهو يحاكم الواقع الظالم ويتحدى الطغاة حافياً لا يملك غير إيمانه وعناده، لكن قوة الحياة ترسله إلى العنوان الصحيح، فيتساءل معين بسيسو وهو يعي الجواب ويؤمن به:
فإلى أين إلى أين
يا طالب رأس القيصر يا حافي القدمين
وحافي القدمين هذا، هو الذي سيعيد كتابة المعادلة. وإذا كان اللاجئ توفيق صايغ لم يستطع الدخول، قبل نصف قرن لأنه لا يحمل جواز سفر، فإن اللاجئ في أرضه، الذي صرخ ذات يوم: سجل أنا عربي، هو الذي سيقول لا بصوت محمود درويش وحده، بل بصوت اللاجئين جميعاً من خلال محمود درويش:
كل قلوب الناس جنسيتي
فليسقطوا عني جواز السفر
وهكذا تمكن الشاعر الفلسطيني من أن يجعل الفلسطينية هوية نضالية، وأصبح الحضور الفلسطيني في العالم رمزاً لنضال المعذبين في الأرض، من القرن العشرين إلى الألفية الثالثة. إنها مسيرة شديدة التركيب والتعقيد، جمعت صوت الفرد إلى صوت الجماعة. المرأة إلى الرجل. قصيدة البيت إلى قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. وتماهي الذاتي مع الموضوعي في نشيد متواصل، هو بامتياز صوت العربي الفلسطيني وإسهامه الفني الكبير.
ماذا عن الخصوصية؟
والخطر الأكبر الذي يهدد الشاعر، أي شاعر، عندما يجد نفسه حبيس لحظة جمعية، هي لحظة احتباس الذات أو اندغامها في صوت الجماعة. ويزيد الأمر تعقيداً أن المتلقي يتعامل مع الشاعر وكأنه حادي الركب، وليس شاعراً له خصوصيته التي لا حظ للشعر بعيداً عنها. وقد لاحظنا أن فكرة اللجوء بحد ذاتها تغري الجميع بالنشيد أو النشيج. وعلى هذا فلا يمكن أن يكون الموضوع أساساً لحكم القيمة. إننا لا نملك إلا الانحناء بالتحية للمعاناة الإنسانية. ولكن الفن شأن آخر. وبهذا الاعتبار يحتاج الناقد الممحص إلى معيارين: الأول تاريخي اجتماعي وهو ما يمكن أن يوضع فيه الجميع حسب الموضوع السياسي الاقتصادي. والثاني أدبي فني يخضع لمقاييس نقدية فكرية، وهو ما يعنينا إذا كنا مشغولين بالأدب حقاً. وفي هذا المجال يمكن البحث عن نواظم مشتركة شغلت الشعراء الفلسطينيين الذين كتبوا في ضوء فجيعة اللاجئين. ففكرة الاقتلاع، وتصوير لحظة اللجوء، ومعاناة الغربة، ومرارة المعاناة، وعناد المنكوب استعداداً للثورة، ثم الثورة وأسئلتها.. هذه كلها وغيرها أسئلة تشكل مادة للشاعر الفلسطيني ـ وغير الفلسطيني أحياناً ـ لكنها غير كافية لتجعل المتعامل معها شاعراً. فهناك أشكال التعبير التي تمنح كل شاعر خصوصيته. وقد اهتدى الشاعر اللاجئ إلى القصيدة الدرامية في فترة ما، حيث جعل من هذه المسيرة الأليمة مادة لتطور الشخصية في القصيدة. كما اهتدى إلى أشكال مختلفة مغايرة تميزت فيها كهرباء الغضب وشحنة التوتر. وهذا لا يعني أن القصيدة الدرامية المشحونة بالغضب والتوتر مقصورة على الشاعر الفلسطيني، فالفن أكثر تعقيداً من أن يحيطه تصور محدد. وتبقى على مهمة النقد ومكر التاريخ أن يقولا كلمة الفصل في هذه التجربة الفريدة المتميزة التي قدمت أسماء نوعية يستحق كل منها وقفة خاصة.
البداية
طبيعة صامتة
تطلب الياسمينة ماء،
ولا ماء،
لا ضوء يكفي ليغسل وجه المكان
تضمر المزهرية،
والعطر يرسله الياسمين إلى لا أحد
وكأن الزمان
يتجعد في المزهرية -
لو جاءت المرتجاة لهش لها ..
وانفرد
لم تجيء،
لم تضيء شمعه،
لم تمر على المزهرية، منا، يدان
كل ما كان أني هنا وهناك،
جفاء ذهبت مع الياسمين،
ويمكث، حيث تركت، الجيدد.
البداية
إضراب
أضرب الشباك، لكن الفضاء
لم يزل يهب، من مستقبل الشباك، أو يأتي إليه
أضرب العصفور، لكن الغناء
لم يزل يقتاد طفلا حالما من أذنيه
أضرب الغيم، ولكن الشتاء
حدد الموعد،
والمزراب يغري العتبه
ما الذي تطلب هذي الكائنات المضربة؟
كيف إضراب ولا إغلاق؟
لا إعلان حتى في جريدة
إسترح وارتشف المرة،
لا خوف من العصيان،
لا أخبار عن مزرعة الفلفل في هذا المساء
كل ما في الأمر أن الحبر والصبر معا، والموهبة
عجزت أن تقنع الأشياء بالتجريد،
أو تدخلها في تجربه
هكذا لن تصبح الأشياء موضوع قصيدة
البداية
رهين الجثتين
مرأة أم صاعقة ؟
دخلت، في، من العينين،
واستولت على النبع،
ولم تترك لدمعي قطرتين
- أنت لن تجترحي معجزة،
حتى ولو أيقظت شمسا تحت هدبي
غير أني منذ أن أصبحت نهرا،
دارت الدنيا على قلبي،
وأنهيت إلى نبعي مصبي
فاستحمي بمياهي مرتين
نحلة أم عاشقة
دخلتني من طنين مزمن في الأذنين
تركت روحي رمالا
وأعارتني نخيلا وجمالا
وحلمنا أننا نحلم بالماء فيزرق التراب
- لن تميتيني كما شاء الأسى،
أو تنشريني في كتاب
غير أني منذ أن أضحيت صحراء،
نزعت الشمس عني
وجعلت الماء، في الرمل، يغني
فاغرفي مني سرابا باليدين
هل دمي صاعقة أم عاشقة؟
أم هي النار التي توغرها حرب اثنتين؟
هكذا أمسيت،
لا في الحرب،
لكن في حرب،
وانتهاكات،
ونار عالقة
من يدي يسقط فنجاني على ثوب صديقي
هو ذا يسمع من صوتي اعتذاراتي،
ولم يسمع طبول الحرب في رأسي،
ولم يبصر حريقي
بعد، لن أضحك أو أعبس،
حتى تشهد الحرب التي في جسدي -
واحدة من طعنتين
فأواري صاعقة ميتة فوق رمال العاشقة
أو أجاري جسدي الهارب -
من موت إلى موت..
وأين؟
ربما يندفع النبع إلى وجهي،
وقد تنتشر الصحراء في رأسي،
وقد يختلط الأمر على طول الطريق
إنني أصغي إلى الداخل،
أنشد إلى الحرب التي تمتد،
- من قلبي إلى صدغي -
فهل حرب ولا موت؟
أم الحي الذي يعلن هذا..
في مكان منه يخفي جثتين؟
البداية
الأحجية المكشوفة للمطر والنار
أذكر، أن الجبل العظيم كان يمشي
والمطر الذي يروِّي القمح لا يبلل الأطفال
أذكر أن جارنا الحمّال
توجني بكعكة،
وقال لي: كن ملكاً في الحال
وهكذا وجدت نفسي ملكاً . . والذكريات جيشي
أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي
من شفتيْ أبي إلى خيالي
وكانت الثمار في سلالي
كثيرة،
والنار مُلك دهشتي وطيشي
وعندما تجمع الأطفال والذباب حول بائع الحلاوهْ
ولم أجد في البيت نصف قرش
وعندما أمي بكتْ،
(تنكر حتى الآن أنها بكتْ)،
وعندما انسحبتُ من ملاعب الشقاوة
عرفت أن الجبل العظيم ليس يمشي
عرفت: كنتُ ميتاً. . والذكريات نعشي
ساعتها. . وظفتُ ما أملكه من نار
ليحرق الذاكرة – الغشاوه
وقبل أسبوعين كان المطر المُنْسَح
يسوط وجه طفلة وهو يروِّي القمح
معذرة يا سادتي . . فلست بالثرثار
إذا زعمت أنني حدثتكم عن فتح
(عمان 18/2/1970)
البداية
الشوكة المُزمنة
قالت له عصفورة الأيام:
خطوط كفيّك بلا نهايه
تبدأ من كفيك، أو من صفحة الغوايه
قلبك مفتوح بمصراعيهِ
والغول – في الحكايه
ترميك بالنهار والظلام
أو ان لا يوقظك الرعد، ولا
تملك أن تنام
سحابةٌ مرّتْ على عينيه
ولم تزلْ عصفورة الأيام
تقول ما أدركه، من قبل، وهو خائف
فالنهر يدنو واثقاً اليه
وجمرة العواطف
تنقله عن حطب الآثام
أعرف هذا الضوء مجنوناً، تعودّتُ
عليه من زمن
أعرف كيف يرسم المرأة أحياناً
على شكل الوطن
فمرّة يرسمها أما
ومرة حمّى
(جزء من قصيدة من ديوان "اختلال الليل والنهار" ص 16-19)
البداية
أبو خليل*
اسلم.. فأنت أبو خليل
اليوم يومك،
لا رحيل ولا بديل
والآن ظهرك للعراء..
وفي يديك امانة،
فاضرب.. فداك المستحيل
واذكر، وهم يتقدمون إليك
أنك آخر الأحياء في زمن قتيل
فاضرب.. سلمت أبا خليل
بغداد ليست، أيها النشمي، أرضا، أو مجرد عاصمة
فاضرب يجاوبك الصدى
بغداد أسباط وأوراس وصنعاء ونيل
كن باسم بغداد الردى
وليسقط الشيطان والثعبان والعدوان
عند تراب نعليها
وقل: من تحت أخمصنا السبيل
بغداد مرآة
يرى فيها الغزاة حقول زيت عائمة
وترى عيون الأرض في المرآة
وجها للحياة
ووردة ومقاومة
فاضرب.. سلمت أبا خليل
اليوم يومك
منذ أن رواك دجلة والفرات
وكل يوم كان يومك
خبىء الحلوى لأطفال الحياة
أمامك الدنيا
وخلفك ملجأ في العامرية
نصب عيجميل المخيم في جنين
وسيد الشهداء، يبرح كربلاء
ليستدير إليك حتى يطمئن على الأمانة
طمئن الدنيا عليك
وجرع الشيطان والعدوان والثعبان
كأسا من زعاف السم والموت الوبيل
واضرب.. سلمت أبا خليل
في البيت أطفال
وفي بستان عمرك أم سرك
لا يزال هناك وقت للزنابق
للعصافير الندية
للبكاء على ضحايا العامرية
للخنادق
لا يزال هناك وقت للحياة
وعندما يتقدمون إليك
فكر في الحمام الأبيض المنشور ملء الريح
يحرس كوكبا وثياب أطفال على حبل الغسيل
فاضرب.. قليلا أو كثيرا صبر ساعة
هي ساعة لكن فيها ألف جيل
وتجدد الأيام وردتها
وتزدهر الأغاني في الشوارع لا الإذاعة
ويكون وقت للعيال وأمهم
ويكون فجر ينتقيه أبو خليل
* أبو خليل هو اسم التحبب الذي يطلقه العراقيون على كل فرد من قواتهم المسلحة.
البداية
قمر الظهيرة
رويدًا
إنه قمر الظهيرة في مدى بصري
وإن أُحرز مكافئة
فليس أقل من ألا أكف عن الظنون
أراه وحدي والعيون ترى جنوني
ليس لي هذا الجنون
ولست أزعم أنني أنشأت معجزة
ولكني أرى قمري
لهم أن يضحكوا
ويُظَنُّ بي أني نسيت الشمس في وعر الطفولة
ربما أنسى
ولكني أرى مالا يرون الآن
فليمضوا إلى أيامهم
ولأمضِ من صيفي إلى مطري
على أني وحيد
والعزاء معلَّق في سلة عبث الهواء بها
فلا أعلو إليها وهي لا تدنو إلي
لعل فاكهةً هناك
لعل أعنابًا وأبوابًا ستفتح لي
فأمسك ذيل أمي
وهي تضحك حين أخبرها
بأني ألمس الوحي
كأني أدخل الدنيا
كأني لم أكن فيها
وأدرك أنني لا أملك الإقناع
أمي أمس من ماتت
وها أنا لم أمت إلا قليلاً
وانبعثت
فكيف أني بي أعزِّيها؟!
إذن أين الطريق؟
وهل أعود من الكهولة
أهتدي بدمي الذي ينمو مع الثمر؟
لماذا ليس لي عينان كالبشر؟
لماذا لا أرى الأيام تولد من لياليها
فأحزن إن دعا سبب إلى حزن
وأهجس إن دعا قلق إلى ظن
وأسبق حين يغريني السباق
وإن تعبت؟
فإن لي أني أحاول
أي عفريت تعرض لي
فصرت سواي
لست أريد إلا أن أنام
وأنفض العفريت والأقزام
رويدًا إنه قمر الظهيرة
لست أريده لي
وأريد كالأولاد قمح العيد
يُقْبل من جنوب الصيف ثانية
لنصغر مثلما كنا، ونسرق من شوال
خطُّه أحمر
ويركض خلفنا الفلاح
ينجو سائر الأولاد.
لكني أقصر في الهروب
ومن يقصر عادة يخسر
لماذا الخوف لي والقمح للأولاد
كيف أكون منهم إن رجعت
فهل سأقهر في خوفي
هل سأخرج من يدي ضعفي
وأدخل في الجموع كأنني منهم
وأخجل من دموعي
لا أريد سوى كما يحيون أن أحيا
ولكني أرى ما لا يرون
تعبت أو تعبت بي الرؤيا
البداية
جنسية الدمع
صباح من الغبش الحلو يفتح باب النهار
نهار من الصحو إلا بقايا الغبار
مدارس من أمل,و الأمل
ترجل عن حلم في عيون الكبار
إلى فرح يرتجل
فمن أين خوذة هذا المسربل بالبقع السود؟
كيف انطوى العشب تحت الفتى و تلون بالزهر؟
خل كان يدري اله الجنود,
بما سوف يدري إذا أطلقوا النار؟
اسمع صفارة, و أرى صوت حوامّة في السحابة,
يرمي الجنود حروف الكتابة بالجمر,
فالحال في حالة....... و يئن المضارع,
والشارع الآن جملة حرب,
دريئتهم كل راس و قلب,
أصابوا النهار,
إصابته غير قاتلة,
فالرصاصة في كتف الفجر,
و النهر يجري
و روح العصافير تسري
و ما هي إلا دقائق,
ما هي إلا رقائق من شجر الورد و الصبر,
حتى يطير الجناحان,
والنهر يجري فلا يملا البحر,
يصعد من رئة البحر البحر قوسا قزح
و ما هي إلا حدائق كانت نساء,
و أزواجهن, و طفلين
حتى يسيل الصباح دماءً,
تغذي مجنزرة بالوقود
فيربض فيها اله الجنود و يضحك
تبكي ملائكة غادرت قبر يوسف,
تعجز عن أن ترد الكلام الذي ,
لم يصل, بعد,إسماع تلميذتين
فأسمع دمع السحابة,
من رامة الله تسري إلى طولكرم
ونابلس و الخليل
إلى خان يونس
من صخرة القدس حتى رفح
و تبكي ملائكة جاورت قبر يوسف
سيدنا الخضر في بئر زيت
سيدخل في كل موت
و يخرج من نخلة ضربت موعدا ً للقيامة في عمق دير البلح
و نعرف جنسية الدمع منذ بكى آ دم,
يا فلسطين,
يا دمعة الله،
للحزن أن يترجل يوما ً, ليدخل,من بيت لحمك,طفل الفرح
و نعرف ماذا يخبئ, في الدمع,هذا القطار
ولكن أيرجع من ذهبوا؟
لقد ذهبوا ليعيدوا النهار
و لكنهم ذهبوا
و لسنا نكابر...بل هدنا التعب
سنفقدكم كلما هدأ البيت
هم عودونا:إذا حضروا يزهر الصخب
سنفقد من يكلار الصحن,
ينكلار الشر فينا
ولا ينتهي الشغب الحلو,
يا روحهم انت... يا شغب
عزاء,و كيف العزاء بمن ذهبوا؟
أنزعم,في غفلة,أنهم هربوا؟
وعند المساء يجيئون بالكتب المدرسية,
و القدس,
و الفرح و المرتجي... والنهار
سيبعث أصغرهم بكراريس إخوته.. ويدور الشجار
و نضحك,
نفتح نافذة فنرى أفقا ً لا تعكره البقع السود,
يمضي الجنود و يبقى الصغار
سنكتشف البحر,
نسرح في السهل,
نصغي لنبض الحصاة بقلب الجبل
و نوقظ,من نومه,جبلا غارقا في الأمل
سنفعل هذا و اكثر,نضحك ...نبكي
سيصبح هذا ربابتنا...و سنحكي
و لكن لماذا يباهتنا الدمع؟
يا أملا ذهبوا ليجيئوا به...فلتجئ
و يا قمرا ذهبوا يقطفون لنا ضوءه..فلتضئ
ويا غد...
فلنبتدىء يا غد الغد يا غدنا
لقد نام عمرا,و آن له أن يفيق الجبل
وآن لنا.....
نبذة تاريخية
ولد أحمد خضر دحبور في "حيفا" بالشمال الفلسطيني، وبعد نكبة عام 1948م اضطر أهله للهجرة إلى لبنان ومنها إلى سورية، نشأ ودرس في مخيم للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة "حمص". انضم إلى إحدى حركات النضال الوطني الفلسطيني وكرّس شعره لقضية الوطن المغتصب. عمل مديراً لتحرير مجلة "لوتس" حتى عام 1988م ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطيني وعضو في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين. استقر في تونس منذ عام 1983م.
يكتب الشعر الحر، ويتراوح أحياناً بين الشعر والنثر محاولاً توليد أوزان خاصة في القصيدة الواحدة، ويغلب على شعره الحس التجريبي الذي يؤدي به إلى الغموض، كما يميل إلى الاسترسال في البث مما جعل أكثر قصائده تغرق في الطّول غير المبرّر فنياً وموضوعياً.
أعماله:
1-الضواري وعيون الأطفال / شعر (مطبعة الأندلس، حمص، 1964م)
2-حكاية الولد الفلسطيني (دار العودة، بيروت، 1971م).
3-طائر الوحدات / شعر (دار الآداب، بيروت، 1973م).
4-بغير هذا جئت / شعر (اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، 1977م).
5-اختلاط الليل والنهار / شعر (دار العودة، بيروت، 1979م).
6-واحد وعشرون بحراً / شعر (دار العودة، بيروت، 1980م).
7-شهادة بالأصابع الخمس / شعر (1982م).
8-كلاور عشرية / شعر (1992م).
9-ديوان أحمد دحبور / تتضمن مجموعاته الشعرية السبع الأولى (دار العودة، بيروت، 1983م).
البداية
الشعر الفلسطيني و اللاجئون
أحمد دحبور*
مقدمة
ما من مرة سمعت فيها بنشاط إنساني يتعلق باللاجئين، إلا وتبادر إلى ذهني سؤال متسرع: وهل يوجد في الدنيا لاجئون سوانا؟.. ثم أستدرك أن التشريد والتطهير العرقي واللجوء الجمعي هي من أكثر الظواهر الناجمة عن العدوان والاستعمار شيوعاً. في أفريقيا، في آسيا. بل إن أوروبا عرفت ذلك النوع من التشريد، ولم تكن البوسنة والهرسك إلا مثالاً، من غير أن يغيب عن الذاكرة العادلة تلك المآسي التي صنعها النازي مشرداً ملايين اليهود والمسيحيين على حد سواء. أما الأيام الراهنة فتقص علينا بالدم والألم أنباء الشعب العراقي. وكان للفلسطينيين حصة، بطبيعة الحال، في هوجة التشريد التي شهدها العراق.
وإذا كان ما تقدم صحيحاً. وهو صحيح ما في ذلك شك. فمن أين يأتينا الإحساس بأن اللاجئين كلمة خاصة بالفلسطينيين؟ وقد أضغط على الذاكرة فتنفرج عن صور قاتمة مليئة بالدموع والحسرة كان الأهل يعرضونها على مسامعنا حتى نكاد نراها. فكأنهم كانوا على موعد مع معنى اللجوء منذ لحظة الهجرة الأولى. أيعود ذلك إلى إحساسهم منذ يوم النكبة أن الأيام السبعة التي وعدهم الحكام العرب بإعادتهم إلى بيوتهم خلالها، ستمتد سبعة بعد حتى تصل إلى عشرات السنين؟
وقد أزيد فأتذكر أول يوم سمعت فيه باسم الشاعر إبراهيم طوقان، متبوعاً بأنه فلسطيني من نابلس. فاستغربت سائلاً عمتي المتزوجة في نابلس ـ وكانت تزورنا باستمرار في مخيمنا، جنوب مدينة حمص السورية ـ كيف يكون إبراهيم طوقان شاعراً وهو ليس لاجئاً مثلنا؟ فاللاجئ في مخيلة الطفل الذي كنت هو الفلسطيني بالضرورة، وطبيعي أن أكون قد طرحت سؤالي البريء على عمتي، قبل هزيمة 1967. أي قبل وقوع نابلس تحت الاحتلال. فكأن الاحتلال واللجوء هما من العلامات المميزة ـ في وعيي الطري البسيط يوم ذاك ـ للشعب الفلسطيني الذي إليه أنتمي. وكان علي أن أتذكر دائماً، وبصورة يومية، صفوف تلاميذ مدرستنا الابتدائية وهم ينشدون فلسطين ويؤكدون أننا عائدون. فيما كان أساتذتنا يخطبون بغضب ووعيد. أما في البيوت فكان آباؤنا وأمهاتنا يبكون. وعلى المستوى الشخصي كانت أمي تعيد لي رسم صورة الأرض من منظور الأعجوبة والفاجعة والفرح المأمول البعيد الذي أسمه حيفا.. ولا أذكر، عندما بدأت أقرزم الشعر، وأنا على مقاعد الابتدائية، أنني كتبت من الكلام الذي صادفه الوزن شيئاً قبل.
نحن أبناء المجيدة نحن من حيفا الشهيدة
ومع رنين هذه الكلمات الساذجة البريئة، تطور السؤال فيما بعد: كيف كانت ظاهرة اللاجئين في الشعر العربي الفلسطيني؟ وحتى لا يكون هناك التباس ـ من أولها ـ أشدد على أنني أقصد ظاهرة اللاجئين وتداعياتها، وليست ظاهرة النكبة بالمطلق، غير غافل عن أن مأساة اللجوء هي العلامة الكبرى في حقل هذا الحدث التاريخي الأسود.
توقع ومواكبة:
منذ وعد بلفور عام 1917، أصبح الهاجس الأكبر لدى النخب السياسية والثقافية الفلسطينية هو الخوف على الأرض. بل إن شاعراً مثل إبراهيم طوقان، كان يشير صراحة، قبل وقوع الحرب العالمية الثانية. بخمسة أعوام، إلى احتمال طرد الشعب الفلسطيني من أرضه. وكان طوقان يحذر من مظاهر الرفاهية المخادعة في فلسطين، فهي ليست إلا قشرة براقة تخفي وراءها الكارثة:
ليست فلسطين الرخية غير مهد للشقاء
عرضت لكم خلف الزجاج تميس في حال البهاء
فاليوم أمرح كاسياً وغداً سأنبذ في العراء
وفي قصيدة ثانية، يشير إلى أن خطر الاقتلاع يهدد الفقراء والأغنياء معاً:
فلا رحب القصور غداً بباق لساكنه ولا ضيق الخصاص
وتوفي إبراهيم طوقان عام 1941، قبل أن تتحقق نبوءته السوداء بسبع سنوات. ومن المفارقات أن يكون رحيله في الشهر الخامس الميلادي الذي شهد عام 1948 وقوع النكبة وولادة ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين. وإذا كان الموت لم يمهل هذا الشاعر الكبير ليواكب مأساة اللاجئين التي سبق الآخرين إلى التنبؤ بها، فإن صديق عمره أبا سلمى، عبد الكريم الكرمي، قد عاش هذه المأساة. فلجأ ـ وهو ابن طولكرم الذي كان في حيفا ـ إلى دمشق. ومن هناك أرسل قصائد الحنين والتفجع والأمل إلى كل فلسطيني وعربي:
إلى أمتي وأرضنا تنتظر؟ طال السرى وما أطل القمر
أسأل عن أهلي ومن يسمعني أين بقايا الأهل؟ هل هم بشر؟
الغرباء في ربوع أهلهم يبكي على أهلي الدجى والحجر
ولسوف تستولي الفجيعة، من خلال ظاهرة اللاجئين، على المشهد الشعري الفلسطيني، ولا سيما في تلك السنوات العجاف التي سبقت ظهور منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة. وكانت الإشارة إلى اللاجئين تبدأ بعناوين مجموعات بعض الشعراء. فهذا أبو سلمى يصدر ديوان "المشرد"، أما يوسف الخطيب، فإن عنوان مجموعته المميزة المبكرة، هو "عائدون". ولعل أول مجموعة فلسطينية تنطلق من مأساة اللاجئين، كانت للشاعر هارون هاشم رشيد، وهي "مع الغرباء"، وقد صدرت عام 1954. وهناك مجموعات تشير عناوينها إلى الجرح الفلسطيني بصورة مطلقة، مثل "فلسطين على الصليب" للشاعر معين بسيسو، و"حيفا في سواد العيون" للشاعر حسن البحيري، و"كلمات فلسطينية" للشاعر الحيفاوي حسن النجمي. أما الشاعرة فدوى طوقان، فهي وإن لم تخصص عنواناً مباشراً في مجموعاتها الشعرية للاجئين، إلا أنها كتبت القصائد المتميزة التي تناقلتها الأجيال العربية من مقاعد الدراسة إلى أطروحات البحث، فهي صاحبة القصيدة الشهيرة "مع لاجئة في العيد" التي تقول فيها:
أختاه هذا العيد رف سناه في روح الوجود
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالاً شقياً
متهالكاً، يطوي وراء هموده ألماً عتيا
يرنو إلى اللاشيء منسرحاً مع الأفق البعيد
وتنهي القصيدة بصرخة مباغتة، معتبرة هذا العيد، خارج فلسطين، ليس إلا "عيد الميتين".
واللافت في الشعر المبكر الذي كتبه الفلسطينيون حول النكبة واللاجئين، أن النداء يتجه إلى الأخت الفلسطينية. وهي إعادة إنتاج لفكرة الثأر وإثارة الحمية من خلال الحرائر اللواتي يحرضن الفرسان على حماية الأرض والعرض. وإذا كان هذا الخطاب يتميز بالشجن والأسى، فإنه فيه أملاً بالعودة مشوباً بالحزن الرخيم، كما في أنشودة هارون رشيد الفيروزية الشائقة:
سنرجع يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع أخبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
وهي لحظة مركبة محيرة. فبقدر ما فيها من ثقة الرجوع، يئن فيها صوت المشرد الجريح.
صورة اللجوء:
على أننا ملزمون، قبل متابعة أوديسة اللجوء الفلسطينية، أن نرصد البدايات، وكيف صور الشعراء لحظة الخروج من الوطن. وهي لحظة مرتبطة بالأسرة، حيث يتنادى الأب والأم والأولاد، وكل منهم خائف على الآخرين، كما في هذا المشهد البسيط الذي سجله عبد الرحيم عمر في قصيدة "الرحيل عن جيوس".
عبد الرحيم
لبِّ استغاثة فاطمة
... ما هكذا كنا أردنا الخاتمة
أما توفيق صايغ، هذا الفلسطيني الأوديبي المنكود، فإن لحظة الخروج من طبريا، ستظل تلازمه طيلة حياته. وهو ما عبر عنه من خلال قصيدته الطويلة "معلقة توفيق صايغ". وأخطر ما في هذه القصيدة، من ناحية اللاجئين، أن المشهد عند الشاعر لا يأخذ طابعاً سياسياً أو وطنياً بالمعنى العام للكلمة. بل هو يأتي تلقائياً من خلال كشف الحساب العاطفي الطويل بين الشاعر وأمه. فهو يذكر بسالتها وقلقها عليه وعلى أخوته، فيذكرها، أو يناجيها فيما يتذكر معها:
من غرز الوتد الجديد ـ وغرس الشتلات وسقي الحبق ـ من حث من أضرم الإيمان ـ غير قلبك المنهك الصامد؟ ـ يوم تركنا الديار ـ ولم نحمل معنا ـ سوى الذكريات والمخاوف ـ وقام بين الديار وبيننا ـ سيف مديد عنيد.
وإذا كان الوطن الذي يبتعد عن أنظار اللاجئين، يحل عميقاً في قلوبهم، مرسخاً صورته من خلال الأسر المشردة المذعورة، المتنادية ـ مع ذلك ـ إلى التماسك بفعل قوة الروح عند الأم، فإن الابتعاد عن الوطن سيخلق واقعاً جديداً. لقد ولت أيام اليسر والبحبوحة. وها هي سلمى الخضراء الجيوسي التي كانت تردد مع أمها ذلك الغناء المزدهي بصفد: صفد يا عالية في رأس تلة، تجد نفسها، وهي لاجئة، جديدة العهد بالغربة، لا تستطيع أن تمنح المتسول صدقة، لأنها أصبحت في حاجة إلى تلك الدريهمات التي كانت تتصدق بها عن سعة وبسعادة:
منذ ذاك اليوم لم أمنح قروشي سائلاً
فبنو عمي أمسوا لاجئين
وإذا كانت إهانة اللجوء قد حرمت الشاعرة من ترف تقديم الصدقة، فإنها قد حالت بين الشباب والمرح. وقد تساءل عصام حماد عن معنى التشبيب والرقص والضحك، وهو يجول بين الثاكلات والمنكوبين:
أأرقص في مأتم الثاكلات وأضحك في النكبة الغامرة؟
ويلتقط هارون هاشم رشيد سؤال الطفل البريء، المتوجه إلى أبيه اللاجئ، مستغرباً أنهم يعيشون خلافاً للآخرين، غرباء مشردين، وذلك في إحدى الفيروزيات الشائقة:
لماذا نحن يا أبتي؟ لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون أصحاب وأحباب؟
أما أبو سلمى فإنه كان يجيل عينيه في المنفى، فلا يرى البلاد، وإذا كان الأصحاب والأحباب الذين سأل عنهم الطفل في قصيدة هارون موجودين، فإنهم يتساقطون حول أبى سلمى كأوراق شجرة في خريف. بعيدين عن التراب الذي هم منه ولكنهم لا يعودون إليه حسب القول المقدس: من التراب أتينا وإلى التراب نعود، وقد بكاهم أبو سلمى حتى التحق بهم:
كيف تبكي؟ وهل هناك دموع؟ ذهب الأهل والهوى والربيع
كل يوم أحبه تتهاوى وقبور غريبة وجموع
لا التراب الذي يضم شظاياهم تراب ولا الربوع ربوع
حتى القبور غريبة؟ ذلكم ما انتهى إليه جيل، بل أجيال من الفلسطينيين الذين لا يملكون إلا عناد الانتظار أو نقمته حسب تعبير جبرا إبراهيم جبرا في قصيدته "بيت من حجر":
وبين الليل والليل لا ـ نعرف إلا الانتظار ـ رباه جد علينا، ـ جد علينا، ـ بنقمة الانتظار..
والانتظار يتطلب معجزة البقاء على قيد الحياة، فكيف حقق الفلسطينيون هذه المعجزة؟
التفجع والحنين:
يلتقي الشعراء الفلسطينيون، الذين وعوا فجيعة النكبة من حيث العمر، على حس الفجيعة المشوب بالدهشة والاستنكار. يقول يوسف الخطيب:
وأنا الذي وطني ارتحال الشمس ملء الأرض،
لكني بلا وطن
منذا يصدقني؟
فيما يرفض حسن النجمي فكرة السؤال عن الوطن: "من أين؟... أتسخر من رجل؟ أبأطول رمح تطعنني؟". ولكنها الحقيقة. واللاجئون موزعون على المنافي. ويلفت النظر في هذه الظاهرة، على المستوى الشعري، أن اللجوء الفلسطيني أخذ بعداً رمزياً بموازاة وطأته الواقعية. وإذا كان أمثال أبى سلمى وحسن البحيري ومحمود الحوت قد ذاقوا مرارة الاقتلاع والتهجير مباشرة، بمغادرتهم حيفا ويافا، فإن آخرين مثل هارون هاشم رشيد وفدوى طوقان ويوسف الخطيب مثلاً، هم من غزة ونابلس والخليل، وهي مدن بقيت في يد العرب طيلة الفترة بين نكبة 1948 وهزيمة 1967. ولكن هذا لا يعني أن زلزال النكبة لم يعصف بهم، وأن مأساة اللاجئين لم تزعزعهم. على أن أشعارهم في ذلك لم تقف عند رصد لحظة اللجوء وتصويرها، بل حولت الخيمة إلى رمز للهزيمة التي يجب تجاوزها. وحين يكون الجرح على هذه الدرجة من الفداحة، فإن الألم ـ قبل التعالي على النكبة والبحث عن سبل التغلب على عواملها ـ سيأخذ مداه في الحنين إلى فلسطين، لا كفردوس أندلسي مفقود، بل كوطن لا تزال صورته ماثلة في الروح. وسيكثر في هذا الشعر مناجاة البلبل والعندليب والورد كرموز مجردة بدل وصف الأحياء والطرقات. لنقرأ، على سبيل المثال، من شعر يوسف الخطيب في هذا المجال:
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملتان من المثلث أو ربا صفد
فهذا حنين تاريخي وليس مجسداً. لهذا نراه ينتشر على غير مكان من الوطن:
المثلث، صفد. بينما نرى شاعراً مثل حسن البحيري كان في مدينته حيفا، وهو يحفظ صورة شاطئها وكرملها وشوارعها، لا يكف بعد النكبة عن وصف مغانيها، وهو يسميها جوسق الإلهام. وهو يمحضها حنينه المباشر:
حيفا وأنت مزاج الروح في رمقي وعمق جرح الهوى في موجعي الخفق
وصفو وجه غدير الغاب متشحاً غلالة من بقايا روعة الشفق
وقصة النبع تحكيها جداوله لنفح طيب غصون الزنبق العبق
فالغدير والغاب والنبع والجداول والزنبق هي عناصر طبيعية معينة، عرفها الشاعر وافتقدها في مهجره القسري. إن هذا لا يعني أن الشعراء الذين لم يهاجروا مباشرة، أيام النكبة، كانوا أقل حماسة وحنيناً. ولكنها المقارنة بين المجسد والمجرد. بل إن المجسد كالنبع والغدير وما إلى ذلك، سيلتحق بالمجرد في الشعر، من حيث هو مادة للحنين والتفجع تجعل الشعر الفلسطيني الذي واكب هذه المأساة يأتي من روافد مختلفة ـ حسب موقع كل شاعر جغرافياً ـ ويصب في نهر القضية التي تشمل الجميع. وسيكثر في هذا الشعر ترديد الخيام وتشخيص معاناة اللاجئين ويقينهم أنهم عائدون. كما في قول هارون هاشم رشيد:
أخي مهما أدلهم الليل سوف نطالع الفجرا
فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى
ويذكر أن كثيرين من الشعراء العرب غير الفلسطينيين قد كتبوا في هذا. ولعل قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب "قافلة الضياع" من أشهر الأمثلة على ذلك.
معاناة المنفى:
كان ولا يزال جرح الهجرة من الوطن هو الأعمق والأكثر إيلاماً، لدى الشاعر ـ وغير الشاعر ـ الفلسطيني. وإذا كان فيه مهانة وطنية وقومية، فإنه فيه، إلى ذلك، ألماً واقعياً ملموساً يتعلق بتبعات المنفى. فاللاجئ الفلسطيني ليس مجرد مواطن خسر أرضه ولو إلى حين، بل إنه بخسارة الأرض خسر أمانه الشخصي، حتى أنه أصبح عاجزاً عن التنقل بين البلاد كباقي البشر. وسيفاجئنا ـ ولماذا يفاجئنا؟ ـ توفيق صايغ المتهم بوقف شعره على التداعيات النفسية والباطنية، أن مشكلته كفلسطيني قد نهضت في وجهه، في وقت مبكر، بعيد النكبة بسنة أو اثنتين، من خلال جواز السفر المطلوب منه وهو لا يملكه:
اقتراب ولا دخول ـ وسعي ولا وصول ـ ولا تحمله فلا دخول
وينزل فوج ويصعد فوج. يتبدل الموظفون، ويعبر الجميع إلا الفلسطيني الذي يتساءل: "ماذا وشي بي؟ من وشي؟ ما تهمتي فأدفع تهمتي؟".
وفي مناخ الهجرة المتبلد، يحق للشاعر الفلسطيني أن يتساءل عما إذا كانت هذه الحياة حياة حقاً. تقول دعد الكيالي: أهذي حياة؟ نعيش الحياة ولسنا نعيش وتمضي الحياة. وتأتي كلثوم عرابي على معنى قريب في قصيدة "لاجئة":
أسائل ربي: ماذا جنيت لأرقد أرضاً كلااها التراب
وأسكن في خيمة من قماش رخيص وأرقب هذا الذباب؟
على أن المخيم والذباب والفقر والبطالة، ليست إلا مقدمات لما يلي من فواجع وإهانات ومذابح. فالفلسطيني ليس منسياً كما قد يتبادر إلى أذهان حتى المتشائمين. إنه في البال كمطلوب متهم بلا تهمة. حيث عليه أن يتهذب عشرين تهذيباً ـ على حد تعبير الشاعر مريد البرغوثي ـ بعدد الحكام العرب:
فإن أغضب واحدهم
أحل دماءك القانون
وإن أرضيت واحدهم
أحل دماءك الباقون
وعلى هذا، يملك شاعر مثل علي الخليلي أن يسخر حتى الدمعة، من واقع كهذا، فيصف الروح الفلسطينية المستباحة بالنفس المطمئنة أمام الباب المغلق: "وحدك وحدك تشربين وحل أحذيتهم الممزقة ـ وتفقدين خيالك الواسع كله فجأة ـ فتتحولين إلى قارضة". وليس هؤلاء الذين يهينون النفس الفلسطينية، اللاجئة غير المطمئنة، إلا الأهل، حيث الإهانات والخطر. بل إن العرافة في قصيدة فدوى طوقان تحذرها من غدر الأخوة بلا مواربة:
لكنما الرياح في هبوبها
تقول حاذري:
أخوتك السبعة
أما اللاجئون في ديارهم. أهلنا الذين بقوا في الوطن بعد النكبة، فشردهم الاحتلال من بيوتهم، وحرم عليهم مدنهم، فإن لمعاناتهم وقعاً آخر، إنهم مهاجرون مقيمون في لحظة واحدة قد تكون الأغرب في التاريخ. وها هو سالم جبران يمر بمدينة صفد، المدينة الفلسطينية، كما أنه فلسطيني، ولكنه عنها غريب:
غريب أنا يا صفد
وأنت غريبة
تشير البيوت هلا
ويأمرني ساكنوها ابتعد
وفي هذا الجو الكابوسي تنطلق صرخة محمود درويش التاريخية: سجل أنا عربي، ويناجي أم الأيتام الفلسطينية أمام حبال الغسيل: فلسطينية الميلاد والموت، ويؤكد توفيق زياد أنهم صامدون ـ كأننا عشرون مستحيل، فيما يهزج سميح القاسم: مثلما تنبض في الأرض الخصوبة ـ هكذا تنبض في قلبي العروبة.
لقد استطاعت الثقافة الفلسطينية، والشعر في طليعتها، حراسة الروح الوطنية الفلسطينية، فلم تتآكل بفعل الهجرة واللجوء، بل التقى الماء بالماء، الداخل بالخارج وحق لمحمود درويش أن يقول بكل زهو وكبرياء:
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة وعرس زلازل
التحدي والاستجابة:
كان لمخيم اللجوء، من وجهة الأعداء، مهمة محددة. هي أن ينقرض الفلسطينيون وينتهوا. وتمكنت روح الإبداع العنيدة من أن تطلق رسائل الحياة، فيقول شاعر مثل محمد القيسي من داخل المخيم:
ترى من يخبر الأحباب أنا ما نسيناهم؟
أما عز الدين المناصرة، فيناشد التربة الفلسطينية أن تعين الجسد الفلسطيني على المقاومة: ويا عنب الخليل الحر كن سماً على الأعداء. ويطلق خالد أبو خالد صرخته من "على الصليب" في الكويت، فتكلفه الصرخة أمانه وإقامته، ويطرده الحكام مع رفيقة عمره وبناته في ليلة ما فيها ضوء القمر، ويعترف للوطن بالألم ويعاهده على الاستمرار في العناد:
ويا وطني
أصارحك القول إنا تعبنا
ولكننا ما انعطبنا
ومن خلال هذه المعاناة. ومن داخل ظلموت القهر، تنطلق صرخة شاعر الغضب الفلسطيني يوسف الخطيب، فيزأر متوعداً مكابراً:
تحديت أن شعبي يباع، وأمتي شتات، وأن أغلي الحصى قوت أطفالي
لأبتدرن الصبح قبل اشتعاله وأورث في عمق السكينة زلزالي
والزلزال تعبير أثير لدى الشاعر الفلسطيني. هو ليس زلزالاً لفظياً يتوعد أعداء أقوياء متمكنين من احتلال أرضنا، بل هو مراجعة لمنطق المنطقة العربية في وضعها الراهن. فاللاجئ قنبلة موقوتة ـ لا كما يقول وزير خارجية العدو هذه الأيام بخطاب ديماغوجي، بل بما هو محاكمة لواقع ترفضه الحياة ـ في وجوه حكام مستسلمين، وصفهم الشاعر كمال ناصر بالعلوج، قبل أن يشيع هذا التعبير مؤخراً:
وفلسطين والجراح دوام كل علج عنها بها مشغول
وليس بعد ذلك إلا الثورة. فقد عنف الفلسطيني نفسه بما فيه الكفاية. وحاكم واقعه المضني، وأعلن بلسان يوسف الخطيب:
أنا حاقد، أنا مجرم أنا سيء حتى تعود إلى ذويها الدار
وسيبدو اللاجئ الفلسطيني كما لو كان ثائراً عبثياً. بل إنه أشبه بدون كيشوث لأول وهلة وهو يحاكم الواقع الظالم ويتحدى الطغاة حافياً لا يملك غير إيمانه وعناده، لكن قوة الحياة ترسله إلى العنوان الصحيح، فيتساءل معين بسيسو وهو يعي الجواب ويؤمن به:
فإلى أين إلى أين
يا طالب رأس القيصر يا حافي القدمين
وحافي القدمين هذا، هو الذي سيعيد كتابة المعادلة. وإذا كان اللاجئ توفيق صايغ لم يستطع الدخول، قبل نصف قرن لأنه لا يحمل جواز سفر، فإن اللاجئ في أرضه، الذي صرخ ذات يوم: سجل أنا عربي، هو الذي سيقول لا بصوت محمود درويش وحده، بل بصوت اللاجئين جميعاً من خلال محمود درويش:
كل قلوب الناس جنسيتي
فليسقطوا عني جواز السفر
وهكذا تمكن الشاعر الفلسطيني من أن يجعل الفلسطينية هوية نضالية، وأصبح الحضور الفلسطيني في العالم رمزاً لنضال المعذبين في الأرض، من القرن العشرين إلى الألفية الثالثة. إنها مسيرة شديدة التركيب والتعقيد، جمعت صوت الفرد إلى صوت الجماعة. المرأة إلى الرجل. قصيدة البيت إلى قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. وتماهي الذاتي مع الموضوعي في نشيد متواصل، هو بامتياز صوت العربي الفلسطيني وإسهامه الفني الكبير.
ماذا عن الخصوصية؟
والخطر الأكبر الذي يهدد الشاعر، أي شاعر، عندما يجد نفسه حبيس لحظة جمعية، هي لحظة احتباس الذات أو اندغامها في صوت الجماعة. ويزيد الأمر تعقيداً أن المتلقي يتعامل مع الشاعر وكأنه حادي الركب، وليس شاعراً له خصوصيته التي لا حظ للشعر بعيداً عنها. وقد لاحظنا أن فكرة اللجوء بحد ذاتها تغري الجميع بالنشيد أو النشيج. وعلى هذا فلا يمكن أن يكون الموضوع أساساً لحكم القيمة. إننا لا نملك إلا الانحناء بالتحية للمعاناة الإنسانية. ولكن الفن شأن آخر. وبهذا الاعتبار يحتاج الناقد الممحص إلى معيارين: الأول تاريخي اجتماعي وهو ما يمكن أن يوضع فيه الجميع حسب الموضوع السياسي الاقتصادي. والثاني أدبي فني يخضع لمقاييس نقدية فكرية، وهو ما يعنينا إذا كنا مشغولين بالأدب حقاً. وفي هذا المجال يمكن البحث عن نواظم مشتركة شغلت الشعراء الفلسطينيين الذين كتبوا في ضوء فجيعة اللاجئين. ففكرة الاقتلاع، وتصوير لحظة اللجوء، ومعاناة الغربة، ومرارة المعاناة، وعناد المنكوب استعداداً للثورة، ثم الثورة وأسئلتها.. هذه كلها وغيرها أسئلة تشكل مادة للشاعر الفلسطيني ـ وغير الفلسطيني أحياناً ـ لكنها غير كافية لتجعل المتعامل معها شاعراً. فهناك أشكال التعبير التي تمنح كل شاعر خصوصيته. وقد اهتدى الشاعر اللاجئ إلى القصيدة الدرامية في فترة ما، حيث جعل من هذه المسيرة الأليمة مادة لتطور الشخصية في القصيدة. كما اهتدى إلى أشكال مختلفة مغايرة تميزت فيها كهرباء الغضب وشحنة التوتر. وهذا لا يعني أن القصيدة الدرامية المشحونة بالغضب والتوتر مقصورة على الشاعر الفلسطيني، فالفن أكثر تعقيداً من أن يحيطه تصور محدد. وتبقى على مهمة النقد ومكر التاريخ أن يقولا كلمة الفصل في هذه التجربة الفريدة المتميزة التي قدمت أسماء نوعية يستحق كل منها وقفة خاصة.
البداية
طبيعة صامتة
تطلب الياسمينة ماء،
ولا ماء،
لا ضوء يكفي ليغسل وجه المكان
تضمر المزهرية،
والعطر يرسله الياسمين إلى لا أحد
وكأن الزمان
يتجعد في المزهرية -
لو جاءت المرتجاة لهش لها ..
وانفرد
لم تجيء،
لم تضيء شمعه،
لم تمر على المزهرية، منا، يدان
كل ما كان أني هنا وهناك،
جفاء ذهبت مع الياسمين،
ويمكث، حيث تركت، الجيدد.
البداية
إضراب
أضرب الشباك، لكن الفضاء
لم يزل يهب، من مستقبل الشباك، أو يأتي إليه
أضرب العصفور، لكن الغناء
لم يزل يقتاد طفلا حالما من أذنيه
أضرب الغيم، ولكن الشتاء
حدد الموعد،
والمزراب يغري العتبه
ما الذي تطلب هذي الكائنات المضربة؟
كيف إضراب ولا إغلاق؟
لا إعلان حتى في جريدة
إسترح وارتشف المرة،
لا خوف من العصيان،
لا أخبار عن مزرعة الفلفل في هذا المساء
كل ما في الأمر أن الحبر والصبر معا، والموهبة
عجزت أن تقنع الأشياء بالتجريد،
أو تدخلها في تجربه
هكذا لن تصبح الأشياء موضوع قصيدة
البداية
رهين الجثتين
مرأة أم صاعقة ؟
دخلت، في، من العينين،
واستولت على النبع،
ولم تترك لدمعي قطرتين
- أنت لن تجترحي معجزة،
حتى ولو أيقظت شمسا تحت هدبي
غير أني منذ أن أصبحت نهرا،
دارت الدنيا على قلبي،
وأنهيت إلى نبعي مصبي
فاستحمي بمياهي مرتين
نحلة أم عاشقة
دخلتني من طنين مزمن في الأذنين
تركت روحي رمالا
وأعارتني نخيلا وجمالا
وحلمنا أننا نحلم بالماء فيزرق التراب
- لن تميتيني كما شاء الأسى،
أو تنشريني في كتاب
غير أني منذ أن أضحيت صحراء،
نزعت الشمس عني
وجعلت الماء، في الرمل، يغني
فاغرفي مني سرابا باليدين
هل دمي صاعقة أم عاشقة؟
أم هي النار التي توغرها حرب اثنتين؟
هكذا أمسيت،
لا في الحرب،
لكن في حرب،
وانتهاكات،
ونار عالقة
من يدي يسقط فنجاني على ثوب صديقي
هو ذا يسمع من صوتي اعتذاراتي،
ولم يسمع طبول الحرب في رأسي،
ولم يبصر حريقي
بعد، لن أضحك أو أعبس،
حتى تشهد الحرب التي في جسدي -
واحدة من طعنتين
فأواري صاعقة ميتة فوق رمال العاشقة
أو أجاري جسدي الهارب -
من موت إلى موت..
وأين؟
ربما يندفع النبع إلى وجهي،
وقد تنتشر الصحراء في رأسي،
وقد يختلط الأمر على طول الطريق
إنني أصغي إلى الداخل،
أنشد إلى الحرب التي تمتد،
- من قلبي إلى صدغي -
فهل حرب ولا موت؟
أم الحي الذي يعلن هذا..
في مكان منه يخفي جثتين؟
البداية
الأحجية المكشوفة للمطر والنار
أذكر، أن الجبل العظيم كان يمشي
والمطر الذي يروِّي القمح لا يبلل الأطفال
أذكر أن جارنا الحمّال
توجني بكعكة،
وقال لي: كن ملكاً في الحال
وهكذا وجدت نفسي ملكاً . . والذكريات جيشي
أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي
من شفتيْ أبي إلى خيالي
وكانت الثمار في سلالي
كثيرة،
والنار مُلك دهشتي وطيشي
وعندما تجمع الأطفال والذباب حول بائع الحلاوهْ
ولم أجد في البيت نصف قرش
وعندما أمي بكتْ،
(تنكر حتى الآن أنها بكتْ)،
وعندما انسحبتُ من ملاعب الشقاوة
عرفت أن الجبل العظيم ليس يمشي
عرفت: كنتُ ميتاً. . والذكريات نعشي
ساعتها. . وظفتُ ما أملكه من نار
ليحرق الذاكرة – الغشاوه
وقبل أسبوعين كان المطر المُنْسَح
يسوط وجه طفلة وهو يروِّي القمح
معذرة يا سادتي . . فلست بالثرثار
إذا زعمت أنني حدثتكم عن فتح
(عمان 18/2/1970)
البداية
الشوكة المُزمنة
قالت له عصفورة الأيام:
خطوط كفيّك بلا نهايه
تبدأ من كفيك، أو من صفحة الغوايه
قلبك مفتوح بمصراعيهِ
والغول – في الحكايه
ترميك بالنهار والظلام
أو ان لا يوقظك الرعد، ولا
تملك أن تنام
سحابةٌ مرّتْ على عينيه
ولم تزلْ عصفورة الأيام
تقول ما أدركه، من قبل، وهو خائف
فالنهر يدنو واثقاً اليه
وجمرة العواطف
تنقله عن حطب الآثام
أعرف هذا الضوء مجنوناً، تعودّتُ
عليه من زمن
أعرف كيف يرسم المرأة أحياناً
على شكل الوطن
فمرّة يرسمها أما
ومرة حمّى
(جزء من قصيدة من ديوان "اختلال الليل والنهار" ص 16-19)
البداية
أبو خليل*
اسلم.. فأنت أبو خليل
اليوم يومك،
لا رحيل ولا بديل
والآن ظهرك للعراء..
وفي يديك امانة،
فاضرب.. فداك المستحيل
واذكر، وهم يتقدمون إليك
أنك آخر الأحياء في زمن قتيل
فاضرب.. سلمت أبا خليل
بغداد ليست، أيها النشمي، أرضا، أو مجرد عاصمة
فاضرب يجاوبك الصدى
بغداد أسباط وأوراس وصنعاء ونيل
كن باسم بغداد الردى
وليسقط الشيطان والثعبان والعدوان
عند تراب نعليها
وقل: من تحت أخمصنا السبيل
بغداد مرآة
يرى فيها الغزاة حقول زيت عائمة
وترى عيون الأرض في المرآة
وجها للحياة
ووردة ومقاومة
فاضرب.. سلمت أبا خليل
اليوم يومك
منذ أن رواك دجلة والفرات
وكل يوم كان يومك
خبىء الحلوى لأطفال الحياة
أمامك الدنيا
وخلفك ملجأ في العامرية
نصب عيجميل المخيم في جنين
وسيد الشهداء، يبرح كربلاء
ليستدير إليك حتى يطمئن على الأمانة
طمئن الدنيا عليك
وجرع الشيطان والعدوان والثعبان
كأسا من زعاف السم والموت الوبيل
واضرب.. سلمت أبا خليل
في البيت أطفال
وفي بستان عمرك أم سرك
لا يزال هناك وقت للزنابق
للعصافير الندية
للبكاء على ضحايا العامرية
للخنادق
لا يزال هناك وقت للحياة
وعندما يتقدمون إليك
فكر في الحمام الأبيض المنشور ملء الريح
يحرس كوكبا وثياب أطفال على حبل الغسيل
فاضرب.. قليلا أو كثيرا صبر ساعة
هي ساعة لكن فيها ألف جيل
وتجدد الأيام وردتها
وتزدهر الأغاني في الشوارع لا الإذاعة
ويكون وقت للعيال وأمهم
ويكون فجر ينتقيه أبو خليل
* أبو خليل هو اسم التحبب الذي يطلقه العراقيون على كل فرد من قواتهم المسلحة.
البداية
قمر الظهيرة
رويدًا
إنه قمر الظهيرة في مدى بصري
وإن أُحرز مكافئة
فليس أقل من ألا أكف عن الظنون
أراه وحدي والعيون ترى جنوني
ليس لي هذا الجنون
ولست أزعم أنني أنشأت معجزة
ولكني أرى قمري
لهم أن يضحكوا
ويُظَنُّ بي أني نسيت الشمس في وعر الطفولة
ربما أنسى
ولكني أرى مالا يرون الآن
فليمضوا إلى أيامهم
ولأمضِ من صيفي إلى مطري
على أني وحيد
والعزاء معلَّق في سلة عبث الهواء بها
فلا أعلو إليها وهي لا تدنو إلي
لعل فاكهةً هناك
لعل أعنابًا وأبوابًا ستفتح لي
فأمسك ذيل أمي
وهي تضحك حين أخبرها
بأني ألمس الوحي
كأني أدخل الدنيا
كأني لم أكن فيها
وأدرك أنني لا أملك الإقناع
أمي أمس من ماتت
وها أنا لم أمت إلا قليلاً
وانبعثت
فكيف أني بي أعزِّيها؟!
إذن أين الطريق؟
وهل أعود من الكهولة
أهتدي بدمي الذي ينمو مع الثمر؟
لماذا ليس لي عينان كالبشر؟
لماذا لا أرى الأيام تولد من لياليها
فأحزن إن دعا سبب إلى حزن
وأهجس إن دعا قلق إلى ظن
وأسبق حين يغريني السباق
وإن تعبت؟
فإن لي أني أحاول
أي عفريت تعرض لي
فصرت سواي
لست أريد إلا أن أنام
وأنفض العفريت والأقزام
رويدًا إنه قمر الظهيرة
لست أريده لي
وأريد كالأولاد قمح العيد
يُقْبل من جنوب الصيف ثانية
لنصغر مثلما كنا، ونسرق من شوال
خطُّه أحمر
ويركض خلفنا الفلاح
ينجو سائر الأولاد.
لكني أقصر في الهروب
ومن يقصر عادة يخسر
لماذا الخوف لي والقمح للأولاد
كيف أكون منهم إن رجعت
فهل سأقهر في خوفي
هل سأخرج من يدي ضعفي
وأدخل في الجموع كأنني منهم
وأخجل من دموعي
لا أريد سوى كما يحيون أن أحيا
ولكني أرى ما لا يرون
تعبت أو تعبت بي الرؤيا
البداية
جنسية الدمع
صباح من الغبش الحلو يفتح باب النهار
نهار من الصحو إلا بقايا الغبار
مدارس من أمل,و الأمل
ترجل عن حلم في عيون الكبار
إلى فرح يرتجل
فمن أين خوذة هذا المسربل بالبقع السود؟
كيف انطوى العشب تحت الفتى و تلون بالزهر؟
خل كان يدري اله الجنود,
بما سوف يدري إذا أطلقوا النار؟
اسمع صفارة, و أرى صوت حوامّة في السحابة,
يرمي الجنود حروف الكتابة بالجمر,
فالحال في حالة....... و يئن المضارع,
والشارع الآن جملة حرب,
دريئتهم كل راس و قلب,
أصابوا النهار,
إصابته غير قاتلة,
فالرصاصة في كتف الفجر,
و النهر يجري
و روح العصافير تسري
و ما هي إلا دقائق,
ما هي إلا رقائق من شجر الورد و الصبر,
حتى يطير الجناحان,
والنهر يجري فلا يملا البحر,
يصعد من رئة البحر البحر قوسا قزح
و ما هي إلا حدائق كانت نساء,
و أزواجهن, و طفلين
حتى يسيل الصباح دماءً,
تغذي مجنزرة بالوقود
فيربض فيها اله الجنود و يضحك
تبكي ملائكة غادرت قبر يوسف,
تعجز عن أن ترد الكلام الذي ,
لم يصل, بعد,إسماع تلميذتين
فأسمع دمع السحابة,
من رامة الله تسري إلى طولكرم
ونابلس و الخليل
إلى خان يونس
من صخرة القدس حتى رفح
و تبكي ملائكة جاورت قبر يوسف
سيدنا الخضر في بئر زيت
سيدخل في كل موت
و يخرج من نخلة ضربت موعدا ً للقيامة في عمق دير البلح
و نعرف جنسية الدمع منذ بكى آ دم,
يا فلسطين,
يا دمعة الله،
للحزن أن يترجل يوما ً, ليدخل,من بيت لحمك,طفل الفرح
و نعرف ماذا يخبئ, في الدمع,هذا القطار
ولكن أيرجع من ذهبوا؟
لقد ذهبوا ليعيدوا النهار
و لكنهم ذهبوا
و لسنا نكابر...بل هدنا التعب
سنفقدكم كلما هدأ البيت
هم عودونا:إذا حضروا يزهر الصخب
سنفقد من يكلار الصحن,
ينكلار الشر فينا
ولا ينتهي الشغب الحلو,
يا روحهم انت... يا شغب
عزاء,و كيف العزاء بمن ذهبوا؟
أنزعم,في غفلة,أنهم هربوا؟
وعند المساء يجيئون بالكتب المدرسية,
و القدس,
و الفرح و المرتجي... والنهار
سيبعث أصغرهم بكراريس إخوته.. ويدور الشجار
و نضحك,
نفتح نافذة فنرى أفقا ً لا تعكره البقع السود,
يمضي الجنود و يبقى الصغار
سنكتشف البحر,
نسرح في السهل,
نصغي لنبض الحصاة بقلب الجبل
و نوقظ,من نومه,جبلا غارقا في الأمل
سنفعل هذا و اكثر,نضحك ...نبكي
سيصبح هذا ربابتنا...و سنحكي
و لكن لماذا يباهتنا الدمع؟
يا أملا ذهبوا ليجيئوا به...فلتجئ
و يا قمرا ذهبوا يقطفون لنا ضوءه..فلتضئ
ويا غد...
فلنبتدىء يا غد الغد يا غدنا
لقد نام عمرا,و آن له أن يفيق الجبل
وآن لنا.....