المقدمة
منذ حوالي عشرين عاماً ، والنقاشات والدراسات والمؤتمرات والندوات العلمية لا تكاد تنقطع أو تهدأ حول موضوع الديناصور الذي سيطر على مسرح الحياة الأرضية ما يزيد على مئة وأربعين مليون سنة ، وحول كيفية اختفائه فجأة من مسرح الحياة في نهاية الحقبة الطباشيرية قبل 65 مليون سنة . النظرية السائدة حالياً هو أن جرماً سماوياً بحجم عشرة كيلومترات قد اصطدم بالأرض قبل 65 مليون سنة ( في المكلايك ) وأحدث انفجاراً تعادل قوته التدميرية عشرة آلاف مليون قنبلة ذرية إنشطارية ، كالتي ألقيت على هيروشيما ، وتسبب في دمار بيئي كارثي للأرض قضى على الديناصور وثلاثة أرباع أشكال الحياة السائدة آنذاك .
المقالة التالية تطرح سيناريو محتملاً للإصطدام ، وآثاره البيئية المدمرة ، ولبعض المسائل العلمية الشائكة في نظرية الإصطدام وميكاجميلية الإبادة الجماعية لأشكال الحياة .
بعض النظريات حول انقراض الأجناس
أدرك الجيولوجيون في القرن التاسع عشر اختفاء بعض أشكال الحياة اختفاء كاملاً من بعض الحقب الجيولوجية السحيقة ، مع أنها كانت مزدهرة في العصور السابقة لها . وعثر العلماء على عظام كبيرة معتقدين في البداية أنها عظام التنين ثم أدركوا أنه الديناصور . وخرجت الى النور نظريات كثيرة محاولة تفسير انقراض الأجناس من بعض الحقب التاريخية وهذه بعض اهم النظريات :
ربما كان الطوفان المذكور في الكتب السماوية هوالمسؤول عن الموت الجماعي وانقراض الأجناس.
وحين حدث بركان كراكاتاو سنة 1883 ومات جراءه 36 ألف شخص ، قيل أن البراكين هي المسؤولة عن ذلك .
ولما ظهرت نظرية داروين القائلة بصراع البقاء وبقاء الأصلح ، إعتبرها بعض العلماء أنها المسؤولة عن الموت الجماعي وانقراض الأجناس.
وقال آخرون : إن انقلاب الأقطاب المغناطيسية هو السبب . فعندما يصبح المحور المغناطيسي في مستوى خط استواء الأرض يختفي القطبان المغناطيسيان ، فتدخل الأشعة الكونية القائلة إلى الغلاف الجوّي الأرضي ، وتدمر خلايا الكائنات الحية .
ثم قال أخرون بأن العصور الجليدية هي المسؤولة .
وحين تقدمت علوم الأرض ، قالوا بأن تحرك الصفائح القارّية هي المسؤولة ، لأنها تسبب تكوين الجبال وثوران البراكين وارتفاع مستوى البحار وتغيير المناخ .
أما حول قضية انقراض الديناصور واختفاء ثلاثة أرباع أشكال الحياة الأرضية قبل 65 مليون سنة ، فإن النظرية المقبولة الآن ، هي أن نيزكاً أو مذنباً بقطر عشرة كيلومترات ضرب الأرض عند شواطئ المكلايك ، مطلقاً سلسلة من الكوارث البيئية ، تسببت في الموت الجماعي المذكور . وقد ثبت أن مثل هذا قد حدث قبل (250) مليوت سنة كما حدث أيضاً قبل (365 ) مليون سنة .
ولا بأس من ذكر نظرية متطرفة يحملها الذين يعتقدون بوجود حضارات كونية غير أرضية وعاقلة ، زارت الأرض عدة مرات في تاريخها الطويل . هذه الحضارات الكونية حاولت تغيير الظروف العدائية لظهور كائن عاقل كالإنسان ، فقضت على الديناصور وحسنت ظروف البيئة الملائمة لظهور الإنسان .
وفي الحقيقة ، يوجد العديد من النظريات الطريفة والمتطرفة ، لا مجال لذكرها في هذه المقالة .
إنقراض الديناصور وفكرة الاصطدام
بدأت فكرة الاصطدام عام 1978 عندما عاد الجيولوجي فالتر الفاريز (Walter Alvarez) من جامعة كاليفورنيا / بيركلي من رحلة علمية إلى جبال الأبناين الشمالية في إيطاليا وبالقرب من مدينة غوبيو ( Gubio ) . جمع الفاريز حوالي اربعمائية رطل إنكليزي من صخور الطبقة الصلصالية الغريبة الفاصلة ما بين الحقبتين الجيولوجيتين الطباشيرية (Cretaceous) والثالثة (Tertiary ) ، اختصاراً نطلق عليهما الرمزين ط و ث في هذه المقالة ، أي أن عمرها 65 مليون سنة . وهذه الطبقة الصلصالية هي بعرض قلم الحبر فقط وتصلح كعلامة مميزة و واضحة ما بين الطبقتين الجيولوجيتين المذكورتين . و كان الدكتور لويز الفاريز( Luis Alvarez ) والد فالتر ألفاريز و حامل جائزة نوبل في الفيزياء قد اقترح عمل فحوصات مخبرية على هذه الصخور ، بهدف تحديد نسبة الإريديوم وهو من مجموعة البلاتين وموجود بوفرة في المذنبات والكويكبات والنيازك : لكنه نادر جداً في القشرة الأرضية . ولدهشة العلماء ، دلت الفحوصات على أن عنصر الإريديوم متوافر في هذه الصخور بنسبة تعادل ثلاثين مرة مقدار تركيزه في الصخور العادية . وهذا يعني أن غباراً نيزكياً أو العديد من النيازك الصغيرة قد سقطت على الطبقة الصلصالية ما بين ط و ث قبل 65 مليون سنة . ولكن العلماء في جامعة بيركلي قدموا اقتراحاً بديلاً عن "مطر" النيازك الصغيرة ، فقالوا بأن نيزكاً كبيراً بحجم ثمانية كيلومترات قد ضرب الأرض قبل 65 مليون سنة ، حاملاً ما مقداره مئتا ألف طن من الإريديوم . العلماء أصحاب هذا الإقتراح هم : لويز ألفاريز وفالتر ألفاريز وفرانك أسارو( Frank Asaro ) وهيلين ميشيل (Helen V. Michel ) .
لقد وجدت هذه النظرية حظوة عند البعض ورفضاً قاطعاً عند البعض الآخر . أما الرافضون فكانت حجتهم : إذا صّح سقوط النيزك الكبير فأين هي الفوهة النيزكية الناتجة عن ذلك ؟ ويعترف فالتر ألفاريز بأن هذا السؤال كان يطاردُُهُ ويلح عليه منذ اكتشافه الطبقة الصلصالية ما بين ط و ث . ولكن نظرية اصطدام النيزك الكبير أخذت تتعزز بشواهد كثيرة واكتسبت شعبية في أوساط العلماء في السنوات الأخيرة . وبمعزل عن الجيولوجيين وحتى دون أن يعرفوا ، كانت المؤشرات قد بدأت بالظهور منذ أكثر من عقدين ذلك أن منطقة تقع على الساحل الشرقي للمكسيك ، حيث شبه جزيرو يوكاتان ( Yucatan ) من المحتمل أنها تحتوي فوهة نيزكية كبيرة ، هي التي من الممكن أن تكون الفوّهة النيزكية المطلوبة ، و التي نتجت عن ارتطام النيزك مع الأرض قبل 65 مليون سنة و تسبب في انقراض الديناصور . في الخمسينيات من هذا القرن اكتشفت شركة النفط المكسيكية( PEMEX ) طبقة غير عادية من الصخور المتكلارة والملامح الأخرى وذلك أثناء حفرها الآبار في تلك المنطقة . وكشفت المسوحات الجيولوجية المغناطيسية التي قامت بها هذه الشركة عام 1968 عن ملمح دائري كبير في ذلك الموقع ، يقع مركزها قرب مدينة تشيكشولوب Chicxulub ( وتلفظ Cheek-Shoe Lube) ، و لكن الإسم الشائع لهذه الفوهة ، هو فوّهة يوكاتان .
وفي عام 1972 اقترح جيولوجيان أن هذه المنطقة تحتوي فوهة نيزكية كبيرة .
وفي عام 1991 نشر بوب(K.O. Pope) ودللر (Charles Duller) ، دراسة تؤكد وجود اصطدام نيزكي في المنطقة نفسها . ويتفق العلماء حالياً على أن النيزك الذي تسبب في تكوين هذه الفوهة النيزكية هو الذي تسبب في القضاء على الديناصور وثلاثة أرباع أشكال الحياة الأرضية السائدة قبل 65 مليون سنة .
سيناريو الاصطدام النيزكي
كثرت الدراسات والاجتهادات حول موضوع انقراض الديناصور وفوهة تشيكشولوب أو فوهة يوكاتان . وحتى الآن لا يزال سيناريو اصطدام نيزكي كبير غير مفهوم . كما أن إصطدام شظايا المذنب شوميكر-ليفي (SL 9 ) مع كوكب المشتري في تموز ( يوليو ) 1994 قد غير الكثير من الآراء والتصورات السائدة آنذاك حول الاصطدامات النيزكية . ويتفق العلماء على أن انقراض الديناصور واشكال الحياة الآخرى عند نهاية الحقبة الطباشيرية لم يكن نتييجة سبب واحد ، كما سنيين قريباً ، وإنما هو خلاصة تدمير البيئة الذي تسبب به اصطدام النيزك . وفيما يلي السيناريو الاصطدامي كما جاء في مقالة " اليوم الذي مات فيه الديناصور" ظهرت في مجلة Astronomy عدد نيسان 1996 :
ساعات قبل الحدث : تنظر إلى السماء فترى شيئاً غريباً فيها . وبعد ساعة من ذلك يصبح هذا الشيء أكثر سطوعاً ولمعانا ، فتأخذ في التساؤل : هل هو مستعر( سوبرنوفا ) ؟ أم مذنب ؟ أم سفينة فضائية جاءتنا من حضارات كونية عاقلة غير أرضية ؟ ولآنك لست ديناصوراً ، فإنك تفهم الرسالة : إنه نيزك في الطريق للاصطدام مع الأرض .
الوقت صفر : بعد حوالي ثلاث ساعات يخترق النيزك الغلاف الجوي الأرضي ، عاملاً فيه نفقاً نتيجة الصدمة الموجية أو الموجة الصدمية ( shock wave ) ، ثم يشتعل على شكل كرة نارية يضاهي سطوعها شمساَ ثانية . وتضرب هذه الكرة النارية الأرض بعد عشر ثوان من دخول النيزك غلاف الأرض الجوّي .
اللحظات الأولى بعد الاصطدام : يغوص النيزك إلى عمق كيلومتر واحد في مياه خليج المكلايك ، ثم يغوص إلى داخل القشرة الأرضية ، مسببا حدوث زلازل عند كل خط زلزالي ، وتضيء السماء بغلالة من الغبار الصخري المنصهر ، وتحترق الحيوانات الكبيرة وتنفق .
الساعة الأولى بعد االاصطدام : ترتفع أمواج المياه إلى مئة متر حيث شواطئ خليج المكلايك على شكل إعصار مائي هائل يغرق بطوفانه السهول الساحلية على عمق آلاف الأميال . ومع ذلك ، فهذا الدمار ما هو إلا محلي وضئيل نسبة لما يحل بالكرة الأرضية من دمار كارثي .
اصطدام النيزك يحدث إنفجارًا مروعاً ذا قوة تدميرية تعادل عشرة آلاف مليون قنبلة ذرية كالتي ألقيت على هيروشيما ، أو ما يعادل عشرة مليون ميغا طن من مادة تي إن تي (TNT ) ، ويندفع الغاز والغبار المنصهر من موقع الانفجار ممزوجاً بمواد النيزك الصادم بما مقداره مليارات الأطنان ( ثلاثة إلى أربعة أضعاف كتلة النيزك ) منطلقاً إلى الفضاء بسرعات كافية للهروب من جاذبية الأرض ، بينما تعود المواد الغبارية لدخول الغلاف الجوي الأرضي ، وتسقط بعيداً عن موقع الاصطدام ، على شكل كرات نارية تشوي الكائنات الحية .
وتسخّن الطاقة الحرارية المتحررة جوّ الأرض حتى تصل درجة حرارته درجات حرارة فرن المطبخ ، فتشوي الحيوانات البرية على اليابسة وتشتعل الغابات بالحرائق ، وتتحول السماء من لونها الأزرق الشفاف الى قطعة حمراء لامعة من اللافا المتوهّجة ، كما يقول العالمان تون و زانلي ( Toon and Zanle )... هكذا تبدو السماء في الدقائق ما بين الثلاثين والستين الأولى بعد الاصطدام .
إن إصطدام شظايا المذنب SL9 على سطح كوكب المشتري في تموز 1994 ، علمنا أن شظية لا يزيد قطرها على نصف كيلومتر ، انتجت سحابة وصلت حرارتها إلى 5000 آلاف كلفن وغطت جزءاً من سطح المشترى يعادل مساحة الكرة الأرضية . لقد أعطانا هذا الاصطدام برهاناً على أن اصطدام ما قبل 65 مليون سنة قد أشعل النيران على كل كوكب الأرض ، كما يقول ميلوش J.Melosh من جامعة أريزونا الأمريكية ، وتموت الحيوانات الكبيرة وتنجو بعض الحيوانات في مخابئها .
من الساعة الأولى وحتى ستة أشهر : طبقاً لتصورات تون وزانلي تأخذ السماء بعد ساعة من الاصطدام في التبريد وتصبح سوداء ، وبعد نهاية اليوم الأول فإن غبار الاصطدام يحجب أشعة الشمس وتغمر الأرض ظلمة دامسة لمدة عام تقريباً .
من ستة أشهر إلى عشر سنوات: يتحرر الكبريت من صخور الانهيدرايت anhydrite في موقع الاصطدام بفضل الحرارة والضغط الهائلين الناتجين عن الاصطدام ، منطلقاً إلى أعالي الجو . و بفضل أشعة الشمس فوق البنفسجية و وجود بخار الماء يتحول الكبريت إلى حمض الكبريتيك ، وهذا بدوره يحجب أشعة الشمس بقوة ، و ربما أطال فترة الظلمة على الأرض لمدة عقد من الزمان . إن اختفاء أشعة الشمس يجعل درجات الحرارة على اليابسة تهبط كثيراً ، أكثر مما قاسته الأرض في العصور الجليدية الكبيرة . فنيران الاصطدام نفسها لم تقض على الأحياء البحرية وإنما اختفاء أشعة الشمس هو الذي يتسبب بتوقف نمو العوالق المائية الضوئية Photoplankton ، فينهار نظام البيئة البحري . كما أن حمض الكبريتيك يتساقط على شكل مطر حمضي لعدة أشهر ، سالخاً جلود الحيوانات خارج مكامنها ومذيباً أصداف الحيوانات الرخوية البحرية .
بعد عشر سنوات من الاصطدام : وبعد فترة البرودة والتجمد تأتي فترة الدفء والحرارة العالية . إن الاصطدام يطلق عنصر الكربون من الصخور الجيرية في موقع الاصطدام فيتحد مع الأكسجين مكوناً غاز ثاني أكلايد الكربون ( CO2 ) على شكل غلاف يحيط بالكرة الأرضية . وغاز ( CO2 ) يسخّن الأرض لمدة خمسين إلى مئة عام ، على غرار ما يحدث في البيت الزجاجي . يقول العالم Toon : في البداية تمتص مياه المحيطات غاز( CO2 ) حتى الإشباع بفضل تركيزه العالي في الجو ، فترتفع درجات الحرارة لفترة قرن من الزمان . ولكن الحراراة لا ترتفع فقط إلى حدود مستواها ما قبل الاصطدام وإنما سترتفع أكثر من ذلك بكثير ، كما يقول شاربتون . وهكذا تنقرض أجناس كثيرة من الأحياء الأرضية ، تعوّدت على العيش في درجات حراراة معينة ، باردة مثلاً ، وفجأة وجدت نفسها في جوّ حار جداً .
وهنالك بعض العلماء الذين لا يتفقون مع فكرة الدفء هذه ، ومنهم بوب (Kevin Pope) الذي يعتقد بأن الدفء سيكون ضئيلاً ومهملا كما تقول دراسات حديثة عن غاز ( CO2 ) تدعمه في هذا دراسات قام بها آهرنز T. Ahrens ، من معهد كاليفورنيا للتكنولجيا Caltech .
إنقراض الديناصور وكارثة الموت الجماعي
لم يكن الجرم السماوي الصادم بقطر عشرة كيلومترات السبب المباشر والمسؤول وحده عن كل هذا الدمار الكارثي . علماء مثل سيغيرد صن( H.Sigurdson) من جامعة جزيرة رود (Rhode Island) يعزون الموت الجماعي وانقراض الأجناس الى التركيبة الفريدة والكيمياء غير العادية للصخور الرسوبية في موقع الاصطدام . لقد وجد هذا العالم وزملاؤه أن طبقات الصخور في موقع الاصطدام تحتوى على الكربونات والأنهايدرايت anhydrite والجبس بسمك ثلاثة كيلومترات . والمعلوم أن الانهايدرايت يحتوي على تركيز عال من الكبريت . ونتيجة الطاقة الحرارية الهائلة المتحررة جراء الاصطدام النيزكي ، يتحرر الكبريت منطلقاً إلى أعالي الجو ، وبعكس الغاز والدخان اللذين يزولان من الجو خلال ستة أشهر، فإن غاز ثاني أكلايد الكبريت SO2، يظل يسقط على الأرض على شكل مطر حمضي ، له تركيز كتركيز حمض بطارية السيارة . و يدوم هذا الحال عشر سنوات ، كما يقول بينز (K.Bains) من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ، والذي يقول إيضاً :" مثل هذه الظروف تسود حالياً على كوكب الزهرة" .
فالحيوانات والنباتات على الأرض تعرضت لظروف بيئية شاذة لمدة تزيد على عشر سنوات . وهذه هي أم الكوارث البيئية . وقد كانت أقسى مما تتحمله أعداد كبيرة من أجناس الحياة الأرضية آنذاك ، كالديناصور مثلاً .
وهناك علماء آخروت لا يؤمنون بأي دور للكبريت في عمليات الإبادة الجماعية . ومن هؤلاء وورد P.Ward . فهو يقول بأن صعود الغبار إلى الجو له التأثير الكارثي نفسه كالكبريت ، لأنه يعمل اضطراباً وتشوشاً في دورات سقوط المطر ، إذ إنه بعد الانفجار النيزكي مباشرة ، تحولت الأماكن الرطبة إلى جافة جداً ، كما تحولت أيضاً الأماكن الجافة الى رطبة جداً . ومهما يكن الخلاف حول ما الذي حدث فعلاً ، إلا أن هناك إجماعاً على أن فترة برودة وتجمد لمدة عشر سنوات قد ساهمت فعلياً في عملية انقراض الديناصور .
ضد نظرية الاصطدام
هناك قلة من العلماء لا تؤمن بنظرية الاصطدام النيزكي وبأنها التفسير الصحيح لانقراض الديناصور . ومن هؤلاء الجيولوجية غيرتا كيلر ( Gerta Keller ) ، التي تقول بأن أنصار نظرية الاصطدام هم من علماء الفيزياء الفلكية والكيمائيين وقليل من علماء البالينتولجيا. هؤلاء لا يدركون أن الديناصور كان يمر في عصر انحطاط وتقهقر لبضعة ملايين من السنين الأخيرة في الحقبة الطباشيرية . وتقول أيضاً : صحيح أن عظام الديناصور المتوافرة قليلة , وأننا لا نملك متحجرات ديناصور شهد الكارثة ، حتى يسمح لنا ذلك بدراسة كافية وسليمة . إذن لا بد من وجود أساليب أخرى بديلة لذلك ، من أجل الوصول إلى النتائج الصحيحة .
تفاوت درجات الكارثة
هل ماتت الأجناس جراء الاصطدام بالشدة والوتيرة والمعدلات نفسها في كل أصقاع الكرة الأرضية ؟ أم أن عمليات الإبادة تفاوتت حسب المواقع الجغرافية ؟ من بين الأحياء البحرية الموجودة بوفرة كبيرة فإن كائنات المنخريات (Foraminifera) ، وهي نوع من العوالق المائية قاست كثيراً حتى كادت تنقرض . وهي كائنات وحيدة الخلية تعيش في مياه المحيطات على أعماق ما بين مئة وأربعمائة متر . و لكنها في البلاد الحارة اختفت كلية بعد اصطدام ما قبل 65 مليون سنة . إن علائم الانقراض عند خطوط العرض الأبعد شمالاً أو جنوباً عن خط الاستواء ، فهي أخف وطأة وقسوة ، لأن الأجناس الحية هناك متكيّفة أصلاً مع ظروف أكثر برودة و مع مستويات أقل من الضوء . وعند القطبين لم تكن عمليات الإبادة والانقراض كبيرة ، بل على العكلا كما يقول وورد ، قام القطبان بدور الملجأ للحيوانات والنباتات . ويقول أيضاً : حتى في الحرائق الكبيرة للغابات نجد هناك جيوباً فيها مواد غير محترقة ، لأنه من الصعب أن تقضي على كل شيء . الدلائل تشير فقط إلى وقوع كارثة . ويعترف وورد بأنه في البداية لم يستطيع تقبل قصّة الاصطدام ، إذ كان يؤمن بالموت التدريجي الطبيعي للأجناس . ولكنه حين أخضع الاحفوريات (Fossils) المتوافرة في الحقبتين الجيولوجيتين الطباشيريةCretaceous والثالثة Tertiary للدراسة والتمحيص ، وجد أن الحيوانات الكبيرة الحجم قد انقرضت بشكل فجائي . فكلما كانت المتحجّرات ( من الحيوانات ) أكبر حجماً ، أصبحت أكثر ندرة ، إذ وجد العلماء صعوبة في العثور عليها ... ناهيك أننا لم نعثر حتى الآن على ديناصورات عاشت لحظات الكارثة ، حتى نجرى عليها دراسات موثوقة ومعتمدة .
ويقول وورد : ستبقى هناك ألغاز وغوامض بالينتولوجية دون حل . و نحن نود أن نعرف : لماذا بقيت بعض العوالق المائية صامدة دون أن تنقرض ، بينما تعرضت أخرى للإنقراض ؟ يقول البعض ، بأن الإجابة على هذا السؤال سهلة للغاية : فالعوالق المائية التي تعيش في أعماق كبيرة في المحيطات ، لها فرصة نجاة وصمود أكبر من تلك التي تعيش في أعماق أقل .
مذنب أم كويكب؟
يستمر العلماء في النقاش حول ماهية الجسم الصادم : هل هو مذنب أم كويكب ؟ يقول شاربتون : " المواد التي عثر عليها في الحدود ما بين الحقبتين الجيولوجيتين ط و ث تشير على أن الجسم الصادم بدائي primitive ومواده غير متمايزة undifferentiated ".
وهذا يعني أرجحية أن يكون الجرم السماوي مذنباً . ويؤيد ذلك أيضاً التقدير بأن حجمه يعادل عشرة كيلومترات . فهذا الحجم كلاسيكي لمعظم المذنبات . ولكن شاربتون يستدرك قائلا :ً " لدينا الكثير من هذه الأجرام السماوية المقتربة من الأرض Near Earth Objects) NEO) ، التي نطلق عليها إسم الكويكبات Asteroids . وهكذا لا يمكننا أيضاً استبعاده من أن يكون كويكباً .
ماذا عن نظرية داروين؟
درس العالمان راوب وجابلونسكي ( Raup & Jablonski) الحيوانات البحرية الثلاثمائة وخمسين الناجية من كارثة الاصطدام ، مثل المحارات و بعض الأحياء البحرية ، في فترة الحقبة الطباشيرية . واعتماداً على سجل الأحفورات الغني جداً والمحفوظ جيداً على حدود ط و ث ، وجد العلماء والباحثون أن قوانين التطور الطبيعي لا تتطابق مع الموجودات . إن الحيوانات المنتشرة في كل قارات العالم ، لها فرص الصمود أكثر من تلك التي تعيش في مساحات ضيقة ومحدودة في العالم . والخلاصة أن نظرية الاصطدام أكثر قبولاً من نظرية داروين في مسألة الديناصور واختفائه من على مسرح الحياة .
لغز لطبقتين من المقذوفات
يوجين شوميكر هو واحد من كبار العلماء الذين درسوا الفوهات النيزكية ميدانياً ، كي يقارنها مع الفوهات التي تنتج عن الإنفجارات النووية . وقد وجد شبهاً كبيراً يكاد يكون متطابقاً حين زار في الخمسينيات فوهة أريزونا الشهيرة . ثم إنه واحد من ثلاثة أشخاص اكتشفوا المذنب SL9 الذي اصطدم بالمشتري في تموز 1994 . هذا العالم يقف محتاراً أمام اللغز التالي : توجد طبقتان من مقذوفات الاصطدام ترسبتا عند حدود ط و ث ، وهما طبقتان منفصلتان وواضحتا الحدود . ويتساءل شوميكر : كيف تشكلت هاتان الطبقتان ؟ ففي الطبقة العليا يوجد إلى جانب الكوارتز المصدوم shocked أيضاً الزركون المصدوم . أحد العلماء قدّم التفسير التالي : الطبقة السفلى تتكوّن من مقذوفات الانفجار . أما الطبقة العليا فهي تتكون من مواد الكرة النارية نفسها .
وأحسن التفسيرات المقبولة ما قدمه العالم بوب : " تحتوى الوحدة السفلى على القليل من الكوارتز المصدوم والكثير جداً من الميكروتكتايت . مما يعني أن هذه المواد سقطت على الأرض بشكل صاروخي وإلى مسافات قصيرة نسبياً ، بحيث أنها لم تغادر الغلاف الجوّي الأرضي . أما الوحدة العليا فهي تتضمن الكثير من الكوارتز المصدوم وايضاً معظم الإريديوم وتتضمن المواد التي ربما كان قد قذف بها إلى مسافات أعلى من تلك التي وصلتها مواد الطبقة السفلى . إن مواد الطبقة العليا ارتفعت كثيراً ثم هبطت ببطء متساقطة فوق طبقة التكتايت . وقد اكتشف بوب وزميله أوكامبو Ocampo مؤخراً مقذوفات من فوهة يوكاتان قد ترسبت عند مدينة بيليز Belize على بعد 360 كيلومتراً فقط من مركز الاصطدام . وهنا أيضاً توجد طبقتان : السفلى وتتضمن تكتايت وكريات جيرية Carbonate Spherules والعليا التي تتضمن قطعاً كبيرة من الصخور ( الدبش ) يصل حجمها إلى سبعة أمتار ، عائمة في الوحل .
حجم الفوهة النيزكية و النيزك
حجم الفوهة النيزكية
من القضايا الشائكة في مهمات النقاشات الساخنة ، قضية تحديد قطر الفوهة النيزكية يوكاتان . فبالرغم من العديد من سنوات البحث المضنية عن طريق خرائط الجاذبية وعمليات الحفر الميدانية وتقييم بيانات المسح الزلزالي في موقع تشيكشولوب ، فإن الجيولوجيين لم يتفقوا بعد على حجم الفوهة . يقول شاربتون وزملاؤه بأن حجم الفوهة يبلغ مئتي كيلو متر ، ويؤكدون أن أي تقدير أقل من ذلك هو هذيان مطلق . أما بوب وزملاؤه فيقررون الحجم ب ( 240 ) كيلو متراً، و ذلك إثر عثورهم على خنادق ونتوءات حلقية حول مركز الاصطدام ، مما يعزز فكرة أن قطر الفوّهة يجب أن يكون أكبر من مئتي كيلو متر . أما فريق البعثة الكندية بقيادة هيلدبراند A. Hildebrand قإنه يقول : إن القطر لن يزيد في أي حال على مئة وثمانين كيلو متراَ . ويعلق ميلوش على كل ذلك ساخراً في المجلة العلمية الشهيرة " الطبيعة Nature " ( عدد 3/8/1995 ) : إنه حقاً لغريب ألا يتفق العلماء والخبراء على شيء أساسي وجوهري مثل حجم الفوهة النيزكية . إن المشكلة تكمن في أن بنية الفوهات النيزكية ليست دائماً الشيء نفسه . ثم إن العلاقة ما بين الشكل الأولي للفوهة وشكلها النهائي غير واضح ، وأن شكل الفوهة النيزكية الأولى يتعرض للتغيير تحت تأثير الجاذبية . ومما يجعل القضية برمتها أكثر صعوبة وتحدياً ، هو أن فوهة يوكاتان ليست على سطح الأرض وإنما هي مدفونة تحت طبقة رسوبية سمكها كيلومتر واحد . وفي دراسة أجراها شاربتون مؤخراً ، يعود فيؤكد ، أن قطر الفوهة ( 280 ) كيلومتراُ، وأن القطر الأولي للفوهة يتراوح ما بين ( 145 ) و (205 ) كيلومترات .
ويحتج هيلدبراند وزملاؤه قائلين: باستعمال البيانات العلمية نفسها، التي استعملها شاربتون وزملاؤه ، إضافة إلى دراسة خمس خرائط جاذبية جديدة، فإن فريقه لم يعثر على دليل واحد على وجود الحلقة الخارجية التي يزعم شاربتون وزملاؤه أنها موجودة .
حجم النيزك
من أجل تحيد حجم الجرم السماوي الصادم ، إستخدم العلماء تقديرات كمية الإريديوم الموجود في الطبقة الصلصالية على حدود ط و ث والمبعثرة في كل أنحاء العالم ، فتوصلوا إلى نتيجة و مفادها ، أن قطر الجرم السماوي لا بد وأن يكون عشرة كيلو مترات وأنه أنتج بإصطدامه فوهة أولية قطرها سبعون كيلومتراً .
ملاحظات ختامية
إن الدراسات والندوات العلمية والمؤتمرات لن تتوقف حول موضوع الديناصورات وحول انقراضها نتيجة اصطدام جرم سماوي مع الأرض قبل 65 مليون سنة . ولسوف تستمر هذه البحوث والدراسات : فالموضوع مثير ومهم جداً لفروع علمية عديدة .
مثل هذا الاصطدام حدث كثيراً في تاريخ الأرض وقام بدور حاسم في تطور مسيرة الحياة على كوكبنا وذلك بالقضاء على العديد من أشكال الحياة الأرضية وإعطاء الفرص لأنواع أخرى من الأحياء للظهور والإزدهار . إن إنقراض الديناصور سمح بظهور الإنسان على مسرح الحياة .
حدث مثل هذا الاصطدام المروع قبل (250 ) مليون سنة/كما حدث أيضاً قبل 365 مليون سنة وبالنتائج الكارئية نفسها المدمرة للحياة وللبيئة الأرضية .
العديد من الأفكار والآراء حول هذا الموضوع قد تغيرت إثر اصطدام المذنب شوميكر-ليفيSL9 مع كوكب المشتري في تموز 1994 . إن هذا الاصطدام جعل العلماء يطرحون أسئلة جديدة مثل : إذا كان حدث نادر مثل هذا باستطاعنه أن يغير بعمق مجرى الحياة على الأرض ، فهل يتكرر هذا الحدث مرة أخرى ؟ متى ؟ وما العمل ؟ هل نترك مسيرة تطور الحياة على الأرض تأخذ مجراها الطبيعي والخاص بها ؟ أم أننا نستطيع أن نعمل ما لم يستطعه الديناصور ؟ هذا التساؤل الأخير هو ما تعالجه مقالة متخصصة لاحقة .
منذ حوالي عشرين عاماً ، والنقاشات والدراسات والمؤتمرات والندوات العلمية لا تكاد تنقطع أو تهدأ حول موضوع الديناصور الذي سيطر على مسرح الحياة الأرضية ما يزيد على مئة وأربعين مليون سنة ، وحول كيفية اختفائه فجأة من مسرح الحياة في نهاية الحقبة الطباشيرية قبل 65 مليون سنة . النظرية السائدة حالياً هو أن جرماً سماوياً بحجم عشرة كيلومترات قد اصطدم بالأرض قبل 65 مليون سنة ( في المكلايك ) وأحدث انفجاراً تعادل قوته التدميرية عشرة آلاف مليون قنبلة ذرية إنشطارية ، كالتي ألقيت على هيروشيما ، وتسبب في دمار بيئي كارثي للأرض قضى على الديناصور وثلاثة أرباع أشكال الحياة السائدة آنذاك .
المقالة التالية تطرح سيناريو محتملاً للإصطدام ، وآثاره البيئية المدمرة ، ولبعض المسائل العلمية الشائكة في نظرية الإصطدام وميكاجميلية الإبادة الجماعية لأشكال الحياة .
بعض النظريات حول انقراض الأجناس
أدرك الجيولوجيون في القرن التاسع عشر اختفاء بعض أشكال الحياة اختفاء كاملاً من بعض الحقب الجيولوجية السحيقة ، مع أنها كانت مزدهرة في العصور السابقة لها . وعثر العلماء على عظام كبيرة معتقدين في البداية أنها عظام التنين ثم أدركوا أنه الديناصور . وخرجت الى النور نظريات كثيرة محاولة تفسير انقراض الأجناس من بعض الحقب التاريخية وهذه بعض اهم النظريات :
ربما كان الطوفان المذكور في الكتب السماوية هوالمسؤول عن الموت الجماعي وانقراض الأجناس.
وحين حدث بركان كراكاتاو سنة 1883 ومات جراءه 36 ألف شخص ، قيل أن البراكين هي المسؤولة عن ذلك .
ولما ظهرت نظرية داروين القائلة بصراع البقاء وبقاء الأصلح ، إعتبرها بعض العلماء أنها المسؤولة عن الموت الجماعي وانقراض الأجناس.
وقال آخرون : إن انقلاب الأقطاب المغناطيسية هو السبب . فعندما يصبح المحور المغناطيسي في مستوى خط استواء الأرض يختفي القطبان المغناطيسيان ، فتدخل الأشعة الكونية القائلة إلى الغلاف الجوّي الأرضي ، وتدمر خلايا الكائنات الحية .
ثم قال أخرون بأن العصور الجليدية هي المسؤولة .
وحين تقدمت علوم الأرض ، قالوا بأن تحرك الصفائح القارّية هي المسؤولة ، لأنها تسبب تكوين الجبال وثوران البراكين وارتفاع مستوى البحار وتغيير المناخ .
أما حول قضية انقراض الديناصور واختفاء ثلاثة أرباع أشكال الحياة الأرضية قبل 65 مليون سنة ، فإن النظرية المقبولة الآن ، هي أن نيزكاً أو مذنباً بقطر عشرة كيلومترات ضرب الأرض عند شواطئ المكلايك ، مطلقاً سلسلة من الكوارث البيئية ، تسببت في الموت الجماعي المذكور . وقد ثبت أن مثل هذا قد حدث قبل (250) مليوت سنة كما حدث أيضاً قبل (365 ) مليون سنة .
ولا بأس من ذكر نظرية متطرفة يحملها الذين يعتقدون بوجود حضارات كونية غير أرضية وعاقلة ، زارت الأرض عدة مرات في تاريخها الطويل . هذه الحضارات الكونية حاولت تغيير الظروف العدائية لظهور كائن عاقل كالإنسان ، فقضت على الديناصور وحسنت ظروف البيئة الملائمة لظهور الإنسان .
وفي الحقيقة ، يوجد العديد من النظريات الطريفة والمتطرفة ، لا مجال لذكرها في هذه المقالة .
إنقراض الديناصور وفكرة الاصطدام
بدأت فكرة الاصطدام عام 1978 عندما عاد الجيولوجي فالتر الفاريز (Walter Alvarez) من جامعة كاليفورنيا / بيركلي من رحلة علمية إلى جبال الأبناين الشمالية في إيطاليا وبالقرب من مدينة غوبيو ( Gubio ) . جمع الفاريز حوالي اربعمائية رطل إنكليزي من صخور الطبقة الصلصالية الغريبة الفاصلة ما بين الحقبتين الجيولوجيتين الطباشيرية (Cretaceous) والثالثة (Tertiary ) ، اختصاراً نطلق عليهما الرمزين ط و ث في هذه المقالة ، أي أن عمرها 65 مليون سنة . وهذه الطبقة الصلصالية هي بعرض قلم الحبر فقط وتصلح كعلامة مميزة و واضحة ما بين الطبقتين الجيولوجيتين المذكورتين . و كان الدكتور لويز الفاريز( Luis Alvarez ) والد فالتر ألفاريز و حامل جائزة نوبل في الفيزياء قد اقترح عمل فحوصات مخبرية على هذه الصخور ، بهدف تحديد نسبة الإريديوم وهو من مجموعة البلاتين وموجود بوفرة في المذنبات والكويكبات والنيازك : لكنه نادر جداً في القشرة الأرضية . ولدهشة العلماء ، دلت الفحوصات على أن عنصر الإريديوم متوافر في هذه الصخور بنسبة تعادل ثلاثين مرة مقدار تركيزه في الصخور العادية . وهذا يعني أن غباراً نيزكياً أو العديد من النيازك الصغيرة قد سقطت على الطبقة الصلصالية ما بين ط و ث قبل 65 مليون سنة . ولكن العلماء في جامعة بيركلي قدموا اقتراحاً بديلاً عن "مطر" النيازك الصغيرة ، فقالوا بأن نيزكاً كبيراً بحجم ثمانية كيلومترات قد ضرب الأرض قبل 65 مليون سنة ، حاملاً ما مقداره مئتا ألف طن من الإريديوم . العلماء أصحاب هذا الإقتراح هم : لويز ألفاريز وفالتر ألفاريز وفرانك أسارو( Frank Asaro ) وهيلين ميشيل (Helen V. Michel ) .
لقد وجدت هذه النظرية حظوة عند البعض ورفضاً قاطعاً عند البعض الآخر . أما الرافضون فكانت حجتهم : إذا صّح سقوط النيزك الكبير فأين هي الفوهة النيزكية الناتجة عن ذلك ؟ ويعترف فالتر ألفاريز بأن هذا السؤال كان يطاردُُهُ ويلح عليه منذ اكتشافه الطبقة الصلصالية ما بين ط و ث . ولكن نظرية اصطدام النيزك الكبير أخذت تتعزز بشواهد كثيرة واكتسبت شعبية في أوساط العلماء في السنوات الأخيرة . وبمعزل عن الجيولوجيين وحتى دون أن يعرفوا ، كانت المؤشرات قد بدأت بالظهور منذ أكثر من عقدين ذلك أن منطقة تقع على الساحل الشرقي للمكسيك ، حيث شبه جزيرو يوكاتان ( Yucatan ) من المحتمل أنها تحتوي فوهة نيزكية كبيرة ، هي التي من الممكن أن تكون الفوّهة النيزكية المطلوبة ، و التي نتجت عن ارتطام النيزك مع الأرض قبل 65 مليون سنة و تسبب في انقراض الديناصور . في الخمسينيات من هذا القرن اكتشفت شركة النفط المكسيكية( PEMEX ) طبقة غير عادية من الصخور المتكلارة والملامح الأخرى وذلك أثناء حفرها الآبار في تلك المنطقة . وكشفت المسوحات الجيولوجية المغناطيسية التي قامت بها هذه الشركة عام 1968 عن ملمح دائري كبير في ذلك الموقع ، يقع مركزها قرب مدينة تشيكشولوب Chicxulub ( وتلفظ Cheek-Shoe Lube) ، و لكن الإسم الشائع لهذه الفوهة ، هو فوّهة يوكاتان .
وفي عام 1972 اقترح جيولوجيان أن هذه المنطقة تحتوي فوهة نيزكية كبيرة .
وفي عام 1991 نشر بوب(K.O. Pope) ودللر (Charles Duller) ، دراسة تؤكد وجود اصطدام نيزكي في المنطقة نفسها . ويتفق العلماء حالياً على أن النيزك الذي تسبب في تكوين هذه الفوهة النيزكية هو الذي تسبب في القضاء على الديناصور وثلاثة أرباع أشكال الحياة الأرضية السائدة قبل 65 مليون سنة .
سيناريو الاصطدام النيزكي
كثرت الدراسات والاجتهادات حول موضوع انقراض الديناصور وفوهة تشيكشولوب أو فوهة يوكاتان . وحتى الآن لا يزال سيناريو اصطدام نيزكي كبير غير مفهوم . كما أن إصطدام شظايا المذنب شوميكر-ليفي (SL 9 ) مع كوكب المشتري في تموز ( يوليو ) 1994 قد غير الكثير من الآراء والتصورات السائدة آنذاك حول الاصطدامات النيزكية . ويتفق العلماء على أن انقراض الديناصور واشكال الحياة الآخرى عند نهاية الحقبة الطباشيرية لم يكن نتييجة سبب واحد ، كما سنيين قريباً ، وإنما هو خلاصة تدمير البيئة الذي تسبب به اصطدام النيزك . وفيما يلي السيناريو الاصطدامي كما جاء في مقالة " اليوم الذي مات فيه الديناصور" ظهرت في مجلة Astronomy عدد نيسان 1996 :
ساعات قبل الحدث : تنظر إلى السماء فترى شيئاً غريباً فيها . وبعد ساعة من ذلك يصبح هذا الشيء أكثر سطوعاً ولمعانا ، فتأخذ في التساؤل : هل هو مستعر( سوبرنوفا ) ؟ أم مذنب ؟ أم سفينة فضائية جاءتنا من حضارات كونية عاقلة غير أرضية ؟ ولآنك لست ديناصوراً ، فإنك تفهم الرسالة : إنه نيزك في الطريق للاصطدام مع الأرض .
الوقت صفر : بعد حوالي ثلاث ساعات يخترق النيزك الغلاف الجوي الأرضي ، عاملاً فيه نفقاً نتيجة الصدمة الموجية أو الموجة الصدمية ( shock wave ) ، ثم يشتعل على شكل كرة نارية يضاهي سطوعها شمساَ ثانية . وتضرب هذه الكرة النارية الأرض بعد عشر ثوان من دخول النيزك غلاف الأرض الجوّي .
اللحظات الأولى بعد الاصطدام : يغوص النيزك إلى عمق كيلومتر واحد في مياه خليج المكلايك ، ثم يغوص إلى داخل القشرة الأرضية ، مسببا حدوث زلازل عند كل خط زلزالي ، وتضيء السماء بغلالة من الغبار الصخري المنصهر ، وتحترق الحيوانات الكبيرة وتنفق .
الساعة الأولى بعد االاصطدام : ترتفع أمواج المياه إلى مئة متر حيث شواطئ خليج المكلايك على شكل إعصار مائي هائل يغرق بطوفانه السهول الساحلية على عمق آلاف الأميال . ومع ذلك ، فهذا الدمار ما هو إلا محلي وضئيل نسبة لما يحل بالكرة الأرضية من دمار كارثي .
اصطدام النيزك يحدث إنفجارًا مروعاً ذا قوة تدميرية تعادل عشرة آلاف مليون قنبلة ذرية كالتي ألقيت على هيروشيما ، أو ما يعادل عشرة مليون ميغا طن من مادة تي إن تي (TNT ) ، ويندفع الغاز والغبار المنصهر من موقع الانفجار ممزوجاً بمواد النيزك الصادم بما مقداره مليارات الأطنان ( ثلاثة إلى أربعة أضعاف كتلة النيزك ) منطلقاً إلى الفضاء بسرعات كافية للهروب من جاذبية الأرض ، بينما تعود المواد الغبارية لدخول الغلاف الجوي الأرضي ، وتسقط بعيداً عن موقع الاصطدام ، على شكل كرات نارية تشوي الكائنات الحية .
وتسخّن الطاقة الحرارية المتحررة جوّ الأرض حتى تصل درجة حرارته درجات حرارة فرن المطبخ ، فتشوي الحيوانات البرية على اليابسة وتشتعل الغابات بالحرائق ، وتتحول السماء من لونها الأزرق الشفاف الى قطعة حمراء لامعة من اللافا المتوهّجة ، كما يقول العالمان تون و زانلي ( Toon and Zanle )... هكذا تبدو السماء في الدقائق ما بين الثلاثين والستين الأولى بعد الاصطدام .
إن إصطدام شظايا المذنب SL9 على سطح كوكب المشتري في تموز 1994 ، علمنا أن شظية لا يزيد قطرها على نصف كيلومتر ، انتجت سحابة وصلت حرارتها إلى 5000 آلاف كلفن وغطت جزءاً من سطح المشترى يعادل مساحة الكرة الأرضية . لقد أعطانا هذا الاصطدام برهاناً على أن اصطدام ما قبل 65 مليون سنة قد أشعل النيران على كل كوكب الأرض ، كما يقول ميلوش J.Melosh من جامعة أريزونا الأمريكية ، وتموت الحيوانات الكبيرة وتنجو بعض الحيوانات في مخابئها .
من الساعة الأولى وحتى ستة أشهر : طبقاً لتصورات تون وزانلي تأخذ السماء بعد ساعة من الاصطدام في التبريد وتصبح سوداء ، وبعد نهاية اليوم الأول فإن غبار الاصطدام يحجب أشعة الشمس وتغمر الأرض ظلمة دامسة لمدة عام تقريباً .
من ستة أشهر إلى عشر سنوات: يتحرر الكبريت من صخور الانهيدرايت anhydrite في موقع الاصطدام بفضل الحرارة والضغط الهائلين الناتجين عن الاصطدام ، منطلقاً إلى أعالي الجو . و بفضل أشعة الشمس فوق البنفسجية و وجود بخار الماء يتحول الكبريت إلى حمض الكبريتيك ، وهذا بدوره يحجب أشعة الشمس بقوة ، و ربما أطال فترة الظلمة على الأرض لمدة عقد من الزمان . إن اختفاء أشعة الشمس يجعل درجات الحرارة على اليابسة تهبط كثيراً ، أكثر مما قاسته الأرض في العصور الجليدية الكبيرة . فنيران الاصطدام نفسها لم تقض على الأحياء البحرية وإنما اختفاء أشعة الشمس هو الذي يتسبب بتوقف نمو العوالق المائية الضوئية Photoplankton ، فينهار نظام البيئة البحري . كما أن حمض الكبريتيك يتساقط على شكل مطر حمضي لعدة أشهر ، سالخاً جلود الحيوانات خارج مكامنها ومذيباً أصداف الحيوانات الرخوية البحرية .
بعد عشر سنوات من الاصطدام : وبعد فترة البرودة والتجمد تأتي فترة الدفء والحرارة العالية . إن الاصطدام يطلق عنصر الكربون من الصخور الجيرية في موقع الاصطدام فيتحد مع الأكسجين مكوناً غاز ثاني أكلايد الكربون ( CO2 ) على شكل غلاف يحيط بالكرة الأرضية . وغاز ( CO2 ) يسخّن الأرض لمدة خمسين إلى مئة عام ، على غرار ما يحدث في البيت الزجاجي . يقول العالم Toon : في البداية تمتص مياه المحيطات غاز( CO2 ) حتى الإشباع بفضل تركيزه العالي في الجو ، فترتفع درجات الحرارة لفترة قرن من الزمان . ولكن الحراراة لا ترتفع فقط إلى حدود مستواها ما قبل الاصطدام وإنما سترتفع أكثر من ذلك بكثير ، كما يقول شاربتون . وهكذا تنقرض أجناس كثيرة من الأحياء الأرضية ، تعوّدت على العيش في درجات حراراة معينة ، باردة مثلاً ، وفجأة وجدت نفسها في جوّ حار جداً .
وهنالك بعض العلماء الذين لا يتفقون مع فكرة الدفء هذه ، ومنهم بوب (Kevin Pope) الذي يعتقد بأن الدفء سيكون ضئيلاً ومهملا كما تقول دراسات حديثة عن غاز ( CO2 ) تدعمه في هذا دراسات قام بها آهرنز T. Ahrens ، من معهد كاليفورنيا للتكنولجيا Caltech .
إنقراض الديناصور وكارثة الموت الجماعي
لم يكن الجرم السماوي الصادم بقطر عشرة كيلومترات السبب المباشر والمسؤول وحده عن كل هذا الدمار الكارثي . علماء مثل سيغيرد صن( H.Sigurdson) من جامعة جزيرة رود (Rhode Island) يعزون الموت الجماعي وانقراض الأجناس الى التركيبة الفريدة والكيمياء غير العادية للصخور الرسوبية في موقع الاصطدام . لقد وجد هذا العالم وزملاؤه أن طبقات الصخور في موقع الاصطدام تحتوى على الكربونات والأنهايدرايت anhydrite والجبس بسمك ثلاثة كيلومترات . والمعلوم أن الانهايدرايت يحتوي على تركيز عال من الكبريت . ونتيجة الطاقة الحرارية الهائلة المتحررة جراء الاصطدام النيزكي ، يتحرر الكبريت منطلقاً إلى أعالي الجو ، وبعكس الغاز والدخان اللذين يزولان من الجو خلال ستة أشهر، فإن غاز ثاني أكلايد الكبريت SO2، يظل يسقط على الأرض على شكل مطر حمضي ، له تركيز كتركيز حمض بطارية السيارة . و يدوم هذا الحال عشر سنوات ، كما يقول بينز (K.Bains) من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ، والذي يقول إيضاً :" مثل هذه الظروف تسود حالياً على كوكب الزهرة" .
فالحيوانات والنباتات على الأرض تعرضت لظروف بيئية شاذة لمدة تزيد على عشر سنوات . وهذه هي أم الكوارث البيئية . وقد كانت أقسى مما تتحمله أعداد كبيرة من أجناس الحياة الأرضية آنذاك ، كالديناصور مثلاً .
وهناك علماء آخروت لا يؤمنون بأي دور للكبريت في عمليات الإبادة الجماعية . ومن هؤلاء وورد P.Ward . فهو يقول بأن صعود الغبار إلى الجو له التأثير الكارثي نفسه كالكبريت ، لأنه يعمل اضطراباً وتشوشاً في دورات سقوط المطر ، إذ إنه بعد الانفجار النيزكي مباشرة ، تحولت الأماكن الرطبة إلى جافة جداً ، كما تحولت أيضاً الأماكن الجافة الى رطبة جداً . ومهما يكن الخلاف حول ما الذي حدث فعلاً ، إلا أن هناك إجماعاً على أن فترة برودة وتجمد لمدة عشر سنوات قد ساهمت فعلياً في عملية انقراض الديناصور .
ضد نظرية الاصطدام
هناك قلة من العلماء لا تؤمن بنظرية الاصطدام النيزكي وبأنها التفسير الصحيح لانقراض الديناصور . ومن هؤلاء الجيولوجية غيرتا كيلر ( Gerta Keller ) ، التي تقول بأن أنصار نظرية الاصطدام هم من علماء الفيزياء الفلكية والكيمائيين وقليل من علماء البالينتولجيا. هؤلاء لا يدركون أن الديناصور كان يمر في عصر انحطاط وتقهقر لبضعة ملايين من السنين الأخيرة في الحقبة الطباشيرية . وتقول أيضاً : صحيح أن عظام الديناصور المتوافرة قليلة , وأننا لا نملك متحجرات ديناصور شهد الكارثة ، حتى يسمح لنا ذلك بدراسة كافية وسليمة . إذن لا بد من وجود أساليب أخرى بديلة لذلك ، من أجل الوصول إلى النتائج الصحيحة .
تفاوت درجات الكارثة
هل ماتت الأجناس جراء الاصطدام بالشدة والوتيرة والمعدلات نفسها في كل أصقاع الكرة الأرضية ؟ أم أن عمليات الإبادة تفاوتت حسب المواقع الجغرافية ؟ من بين الأحياء البحرية الموجودة بوفرة كبيرة فإن كائنات المنخريات (Foraminifera) ، وهي نوع من العوالق المائية قاست كثيراً حتى كادت تنقرض . وهي كائنات وحيدة الخلية تعيش في مياه المحيطات على أعماق ما بين مئة وأربعمائة متر . و لكنها في البلاد الحارة اختفت كلية بعد اصطدام ما قبل 65 مليون سنة . إن علائم الانقراض عند خطوط العرض الأبعد شمالاً أو جنوباً عن خط الاستواء ، فهي أخف وطأة وقسوة ، لأن الأجناس الحية هناك متكيّفة أصلاً مع ظروف أكثر برودة و مع مستويات أقل من الضوء . وعند القطبين لم تكن عمليات الإبادة والانقراض كبيرة ، بل على العكلا كما يقول وورد ، قام القطبان بدور الملجأ للحيوانات والنباتات . ويقول أيضاً : حتى في الحرائق الكبيرة للغابات نجد هناك جيوباً فيها مواد غير محترقة ، لأنه من الصعب أن تقضي على كل شيء . الدلائل تشير فقط إلى وقوع كارثة . ويعترف وورد بأنه في البداية لم يستطيع تقبل قصّة الاصطدام ، إذ كان يؤمن بالموت التدريجي الطبيعي للأجناس . ولكنه حين أخضع الاحفوريات (Fossils) المتوافرة في الحقبتين الجيولوجيتين الطباشيريةCretaceous والثالثة Tertiary للدراسة والتمحيص ، وجد أن الحيوانات الكبيرة الحجم قد انقرضت بشكل فجائي . فكلما كانت المتحجّرات ( من الحيوانات ) أكبر حجماً ، أصبحت أكثر ندرة ، إذ وجد العلماء صعوبة في العثور عليها ... ناهيك أننا لم نعثر حتى الآن على ديناصورات عاشت لحظات الكارثة ، حتى نجرى عليها دراسات موثوقة ومعتمدة .
ويقول وورد : ستبقى هناك ألغاز وغوامض بالينتولوجية دون حل . و نحن نود أن نعرف : لماذا بقيت بعض العوالق المائية صامدة دون أن تنقرض ، بينما تعرضت أخرى للإنقراض ؟ يقول البعض ، بأن الإجابة على هذا السؤال سهلة للغاية : فالعوالق المائية التي تعيش في أعماق كبيرة في المحيطات ، لها فرصة نجاة وصمود أكبر من تلك التي تعيش في أعماق أقل .
مذنب أم كويكب؟
يستمر العلماء في النقاش حول ماهية الجسم الصادم : هل هو مذنب أم كويكب ؟ يقول شاربتون : " المواد التي عثر عليها في الحدود ما بين الحقبتين الجيولوجيتين ط و ث تشير على أن الجسم الصادم بدائي primitive ومواده غير متمايزة undifferentiated ".
وهذا يعني أرجحية أن يكون الجرم السماوي مذنباً . ويؤيد ذلك أيضاً التقدير بأن حجمه يعادل عشرة كيلومترات . فهذا الحجم كلاسيكي لمعظم المذنبات . ولكن شاربتون يستدرك قائلا :ً " لدينا الكثير من هذه الأجرام السماوية المقتربة من الأرض Near Earth Objects) NEO) ، التي نطلق عليها إسم الكويكبات Asteroids . وهكذا لا يمكننا أيضاً استبعاده من أن يكون كويكباً .
ماذا عن نظرية داروين؟
درس العالمان راوب وجابلونسكي ( Raup & Jablonski) الحيوانات البحرية الثلاثمائة وخمسين الناجية من كارثة الاصطدام ، مثل المحارات و بعض الأحياء البحرية ، في فترة الحقبة الطباشيرية . واعتماداً على سجل الأحفورات الغني جداً والمحفوظ جيداً على حدود ط و ث ، وجد العلماء والباحثون أن قوانين التطور الطبيعي لا تتطابق مع الموجودات . إن الحيوانات المنتشرة في كل قارات العالم ، لها فرص الصمود أكثر من تلك التي تعيش في مساحات ضيقة ومحدودة في العالم . والخلاصة أن نظرية الاصطدام أكثر قبولاً من نظرية داروين في مسألة الديناصور واختفائه من على مسرح الحياة .
لغز لطبقتين من المقذوفات
يوجين شوميكر هو واحد من كبار العلماء الذين درسوا الفوهات النيزكية ميدانياً ، كي يقارنها مع الفوهات التي تنتج عن الإنفجارات النووية . وقد وجد شبهاً كبيراً يكاد يكون متطابقاً حين زار في الخمسينيات فوهة أريزونا الشهيرة . ثم إنه واحد من ثلاثة أشخاص اكتشفوا المذنب SL9 الذي اصطدم بالمشتري في تموز 1994 . هذا العالم يقف محتاراً أمام اللغز التالي : توجد طبقتان من مقذوفات الاصطدام ترسبتا عند حدود ط و ث ، وهما طبقتان منفصلتان وواضحتا الحدود . ويتساءل شوميكر : كيف تشكلت هاتان الطبقتان ؟ ففي الطبقة العليا يوجد إلى جانب الكوارتز المصدوم shocked أيضاً الزركون المصدوم . أحد العلماء قدّم التفسير التالي : الطبقة السفلى تتكوّن من مقذوفات الانفجار . أما الطبقة العليا فهي تتكون من مواد الكرة النارية نفسها .
وأحسن التفسيرات المقبولة ما قدمه العالم بوب : " تحتوى الوحدة السفلى على القليل من الكوارتز المصدوم والكثير جداً من الميكروتكتايت . مما يعني أن هذه المواد سقطت على الأرض بشكل صاروخي وإلى مسافات قصيرة نسبياً ، بحيث أنها لم تغادر الغلاف الجوّي الأرضي . أما الوحدة العليا فهي تتضمن الكثير من الكوارتز المصدوم وايضاً معظم الإريديوم وتتضمن المواد التي ربما كان قد قذف بها إلى مسافات أعلى من تلك التي وصلتها مواد الطبقة السفلى . إن مواد الطبقة العليا ارتفعت كثيراً ثم هبطت ببطء متساقطة فوق طبقة التكتايت . وقد اكتشف بوب وزميله أوكامبو Ocampo مؤخراً مقذوفات من فوهة يوكاتان قد ترسبت عند مدينة بيليز Belize على بعد 360 كيلومتراً فقط من مركز الاصطدام . وهنا أيضاً توجد طبقتان : السفلى وتتضمن تكتايت وكريات جيرية Carbonate Spherules والعليا التي تتضمن قطعاً كبيرة من الصخور ( الدبش ) يصل حجمها إلى سبعة أمتار ، عائمة في الوحل .
حجم الفوهة النيزكية و النيزك
حجم الفوهة النيزكية
من القضايا الشائكة في مهمات النقاشات الساخنة ، قضية تحديد قطر الفوهة النيزكية يوكاتان . فبالرغم من العديد من سنوات البحث المضنية عن طريق خرائط الجاذبية وعمليات الحفر الميدانية وتقييم بيانات المسح الزلزالي في موقع تشيكشولوب ، فإن الجيولوجيين لم يتفقوا بعد على حجم الفوهة . يقول شاربتون وزملاؤه بأن حجم الفوهة يبلغ مئتي كيلو متر ، ويؤكدون أن أي تقدير أقل من ذلك هو هذيان مطلق . أما بوب وزملاؤه فيقررون الحجم ب ( 240 ) كيلو متراً، و ذلك إثر عثورهم على خنادق ونتوءات حلقية حول مركز الاصطدام ، مما يعزز فكرة أن قطر الفوّهة يجب أن يكون أكبر من مئتي كيلو متر . أما فريق البعثة الكندية بقيادة هيلدبراند A. Hildebrand قإنه يقول : إن القطر لن يزيد في أي حال على مئة وثمانين كيلو متراَ . ويعلق ميلوش على كل ذلك ساخراً في المجلة العلمية الشهيرة " الطبيعة Nature " ( عدد 3/8/1995 ) : إنه حقاً لغريب ألا يتفق العلماء والخبراء على شيء أساسي وجوهري مثل حجم الفوهة النيزكية . إن المشكلة تكمن في أن بنية الفوهات النيزكية ليست دائماً الشيء نفسه . ثم إن العلاقة ما بين الشكل الأولي للفوهة وشكلها النهائي غير واضح ، وأن شكل الفوهة النيزكية الأولى يتعرض للتغيير تحت تأثير الجاذبية . ومما يجعل القضية برمتها أكثر صعوبة وتحدياً ، هو أن فوهة يوكاتان ليست على سطح الأرض وإنما هي مدفونة تحت طبقة رسوبية سمكها كيلومتر واحد . وفي دراسة أجراها شاربتون مؤخراً ، يعود فيؤكد ، أن قطر الفوهة ( 280 ) كيلومتراُ، وأن القطر الأولي للفوهة يتراوح ما بين ( 145 ) و (205 ) كيلومترات .
ويحتج هيلدبراند وزملاؤه قائلين: باستعمال البيانات العلمية نفسها، التي استعملها شاربتون وزملاؤه ، إضافة إلى دراسة خمس خرائط جاذبية جديدة، فإن فريقه لم يعثر على دليل واحد على وجود الحلقة الخارجية التي يزعم شاربتون وزملاؤه أنها موجودة .
حجم النيزك
من أجل تحيد حجم الجرم السماوي الصادم ، إستخدم العلماء تقديرات كمية الإريديوم الموجود في الطبقة الصلصالية على حدود ط و ث والمبعثرة في كل أنحاء العالم ، فتوصلوا إلى نتيجة و مفادها ، أن قطر الجرم السماوي لا بد وأن يكون عشرة كيلو مترات وأنه أنتج بإصطدامه فوهة أولية قطرها سبعون كيلومتراً .
ملاحظات ختامية
إن الدراسات والندوات العلمية والمؤتمرات لن تتوقف حول موضوع الديناصورات وحول انقراضها نتيجة اصطدام جرم سماوي مع الأرض قبل 65 مليون سنة . ولسوف تستمر هذه البحوث والدراسات : فالموضوع مثير ومهم جداً لفروع علمية عديدة .
مثل هذا الاصطدام حدث كثيراً في تاريخ الأرض وقام بدور حاسم في تطور مسيرة الحياة على كوكبنا وذلك بالقضاء على العديد من أشكال الحياة الأرضية وإعطاء الفرص لأنواع أخرى من الأحياء للظهور والإزدهار . إن إنقراض الديناصور سمح بظهور الإنسان على مسرح الحياة .
حدث مثل هذا الاصطدام المروع قبل (250 ) مليون سنة/كما حدث أيضاً قبل 365 مليون سنة وبالنتائج الكارئية نفسها المدمرة للحياة وللبيئة الأرضية .
العديد من الأفكار والآراء حول هذا الموضوع قد تغيرت إثر اصطدام المذنب شوميكر-ليفيSL9 مع كوكب المشتري في تموز 1994 . إن هذا الاصطدام جعل العلماء يطرحون أسئلة جديدة مثل : إذا كان حدث نادر مثل هذا باستطاعنه أن يغير بعمق مجرى الحياة على الأرض ، فهل يتكرر هذا الحدث مرة أخرى ؟ متى ؟ وما العمل ؟ هل نترك مسيرة تطور الحياة على الأرض تأخذ مجراها الطبيعي والخاص بها ؟ أم أننا نستطيع أن نعمل ما لم يستطعه الديناصور ؟ هذا التساؤل الأخير هو ما تعالجه مقالة متخصصة لاحقة .