ذكرنا في الحلقات الماضيات كيف قدم التتار إلى البلاد العربية الإسلامية ، وقد سبقتهم سمعتهم الرهيبة وأفعالهم المتوحشة ، فعاثوا في الأرض فساداً في بغداد وحلب ودمشق ، واتجهوا إلى الديار المصرية ليأخذوها، وكانت تحت حكم السلطان المملوكي قطز.
وجاء الخبر إلى الناس في مصر أن عسكر هولاكو قد وصل إلى دمشق ، ونهب البلاد ، وقتل العباد ، فاضطربت من هذا الخبر القاهرة ، وعظمت البلية ، ووصلت رسل خمسة من هولاكو برسالة جاء فيها بعد كلام فيه احتقار للمماليك : ( سلموا إلينا الأمر تسلموا قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ، وقد سمعتم أنا أخربنا البلاد وقتلنا العباد ، فلكم منا الهرب ، ولنا خلفكم الطلب ، فمالكم من سيوفنا خلاص ، وأنتم معنا في الأقفاص ، خيولنا سوابق ، وسيوفنا صواعق ، فقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن تأخر عنا سلم ) .
ثم قال له بعد كلام : ( فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترميكم بشرارها ، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ ، ولا يعصمكم منا حصن ولا حرز ، وتترك الأرض منكم خالية ، والمنازل خاوية ، فقد أيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، وقد حذرنا قبلكم أهل بغداد بمثل ذلك فما سمعوا فجرى عليهم ما سمعتم به ، وقتلنا خطيبهم الذي يزعمون أنه الخليفة ، وخربنا عواقب الردى ) ، فها أنت ذا ترى أخي القارئ شدة التتار في كلامهم ، وقوة تهديدهم ، وجلبهم العبارات الميئسة ، خاصة أن هولاكو ختم الرسالة بهذين البيتين :
أين المفر ولا مفـرّ لهـارب ولنا البسيطان:الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في يـدنا الأمـراء والخلفـاء
فماذا فعل المظفر قطز بعد هذا التهديد الذي لا مثيل له ؟ إن الرجل توكل على مولاه الذي لا يخيب قاصده ، وقرر أن يدخل الحرب ضد هولاكو ، وذلك بعد أن جمع الأمراء فاستشارهم فقال لهم فيما قال : ( إن تأخرتم عن قتالهم ملكوا الديار المصرية ، وفعلوا بنا كما فعلوا في بغداد )، فأجمع أمرهم على الخروج إلى هولاكو ، وهنا فعل قطز فعلاً عجيباً لا يقدم عليه إلا من كان قد عقد العزم على المناجزة ، وبث الرعب في العدو المقابل ، وذلك أنه أمر بالرسل الخمسة فقتلوا ، وهذا مخالف لما هو معروف من أن الرسل لا يقتلون ، لكنه صنع هذا ليخيف الأعداء ويشعرهم بقوته وهيبته وسطوته .
واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عدداً ضخماً من الجنود بينهم كثير من عربان الشرقية والغربية ، ونادى بالنفير العام إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفاً ، ثم برزت مشكلة جمع الأموال اللازمة لهذا الجهاد ، فعقد مجلساً دعى إليه القضاة والمشايخ ، وكان على رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال ، فقال الإمام كلاماً عظيماً لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال : (اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر )، فقال السلطان : ( إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار )، فقال له الإمام ابن عبد السلام إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه ، وضربته سكة ونقداً ، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا )، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ ، وكانت له عندهم عظمة ، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا ما قاله ، وهذا يدل على أن لمشايخ الإسلام القدماء عظمة ومكانة لا تدانيها مكانة .
وأما قول العز بن عبد السلام اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ) فهو من باب الثقة بنصر الله تعالى ، وأن النصر يتنزل إن حققت شروطه ، والشيخ قد رأى أن شروطه تحققت ، أو أن ذلك من باب الكرامة للشيخ رحمه الله تعالى ، ويشبه هذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه كان يقسم للناس أن الله سينصرهم على التتار في وقعة شقحب سنة 702هـ وكانت مع التتار أيضاً ، وكان إذا قيل له : قل إن شاء الله يقول : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً .
ثم إن المظفر قطزاً جمع المال من الناس ، فقرر على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً ، وأخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً ، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً ، وأخذ أشياء أخرى كثيرة ، واجتمع له من الأموال بسبب هذا ستمائة ألف دينار وكلاور ، فأنفق ذلك على العسكر والعربان وجهز جيشه ، والطريف أن أحد الشعراء قال في صنيعه هذا الذي اتكأ فيه على فتوى الإمام ابن عبد السلام :
إن سلطاننا الذي نرتجيـه واسع الحال ضيق الإنفـاق
هو سـيف كما يقـال ولكـن قاطـع للرســوم والأرزاق
وصل المظفر قطز إلى فلسطين في موقع هنالك يقال له ( عين جالوت ) ، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 658 ، وكان يوم جمعة ، فلما رأى جنود التتار وكثرتهم قال رحمه الله تعالى للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم ، وقد التقى مع التتار فانكلار الجيش الإسلامي ابتداء ، فترجل عن جواده ورمى خوذته وقال : وا إسلاماه ، فكان لهذه الكلمة فعلها في النفوس ، فاجتهد الجند والأمراء وقاتلوا قتالاً هائلاً ، وكان بينهما ما تشيب من هوله النواصي ، وقتل من الفريقين عسكر لا يحصى في معركة هائلة ، ثم انجلت المعركة عن هزيمة شنيعة للتتار ما ذاقوا مثلها من قبل ، وقتل قائدهم المحنك كَتْبُغانُوِين نائب هولاكو على بلاد الشام ، ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وما قامت للتتار قائمة بعد تلك المعركة ، بل كان أمرهم إلى بوار ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً بهذه النتيجة ، واتبعوا التتار يقتلونهم في كل موضع ، وهرب التتار من دمشق وحلب ، وأيد الله الإسلام وأهله ، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين الذين فرحوا بانتصار التتار قبل ذلك ، وظهر دين الله وهم كارهون .
وبعد : لقد نصر الله المسلمين في عين جالوت نصراً عظيماً لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقعه ، والمسلمون اليوم تحيط بهم أخطار كثيرة من جهات عديدة لكن بشائر النصر قريبة إن شاء الله تعالى ، فهاهم أسود الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون راية الدين عالية ، ويثبتون للدنيا جميعها أن هذه الأمة لا تموت ، ولا ينبغي لها أن تموت ، وأن رحمها ولود بالأبطال ، وأنها تستعصي على كل المؤامرات الدولية والمؤتمرات التيئيسية .
وجاء الخبر إلى الناس في مصر أن عسكر هولاكو قد وصل إلى دمشق ، ونهب البلاد ، وقتل العباد ، فاضطربت من هذا الخبر القاهرة ، وعظمت البلية ، ووصلت رسل خمسة من هولاكو برسالة جاء فيها بعد كلام فيه احتقار للمماليك : ( سلموا إلينا الأمر تسلموا قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ، وقد سمعتم أنا أخربنا البلاد وقتلنا العباد ، فلكم منا الهرب ، ولنا خلفكم الطلب ، فمالكم من سيوفنا خلاص ، وأنتم معنا في الأقفاص ، خيولنا سوابق ، وسيوفنا صواعق ، فقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن تأخر عنا سلم ) .
ثم قال له بعد كلام : ( فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترميكم بشرارها ، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ ، ولا يعصمكم منا حصن ولا حرز ، وتترك الأرض منكم خالية ، والمنازل خاوية ، فقد أيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، وقد حذرنا قبلكم أهل بغداد بمثل ذلك فما سمعوا فجرى عليهم ما سمعتم به ، وقتلنا خطيبهم الذي يزعمون أنه الخليفة ، وخربنا عواقب الردى ) ، فها أنت ذا ترى أخي القارئ شدة التتار في كلامهم ، وقوة تهديدهم ، وجلبهم العبارات الميئسة ، خاصة أن هولاكو ختم الرسالة بهذين البيتين :
أين المفر ولا مفـرّ لهـارب ولنا البسيطان:الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في يـدنا الأمـراء والخلفـاء
فماذا فعل المظفر قطز بعد هذا التهديد الذي لا مثيل له ؟ إن الرجل توكل على مولاه الذي لا يخيب قاصده ، وقرر أن يدخل الحرب ضد هولاكو ، وذلك بعد أن جمع الأمراء فاستشارهم فقال لهم فيما قال : ( إن تأخرتم عن قتالهم ملكوا الديار المصرية ، وفعلوا بنا كما فعلوا في بغداد )، فأجمع أمرهم على الخروج إلى هولاكو ، وهنا فعل قطز فعلاً عجيباً لا يقدم عليه إلا من كان قد عقد العزم على المناجزة ، وبث الرعب في العدو المقابل ، وذلك أنه أمر بالرسل الخمسة فقتلوا ، وهذا مخالف لما هو معروف من أن الرسل لا يقتلون ، لكنه صنع هذا ليخيف الأعداء ويشعرهم بقوته وهيبته وسطوته .
واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عدداً ضخماً من الجنود بينهم كثير من عربان الشرقية والغربية ، ونادى بالنفير العام إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفاً ، ثم برزت مشكلة جمع الأموال اللازمة لهذا الجهاد ، فعقد مجلساً دعى إليه القضاة والمشايخ ، وكان على رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال ، فقال الإمام كلاماً عظيماً لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال : (اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر )، فقال السلطان : ( إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار )، فقال له الإمام ابن عبد السلام إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه ، وضربته سكة ونقداً ، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا )، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ ، وكانت له عندهم عظمة ، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا ما قاله ، وهذا يدل على أن لمشايخ الإسلام القدماء عظمة ومكانة لا تدانيها مكانة .
وأما قول العز بن عبد السلام اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ) فهو من باب الثقة بنصر الله تعالى ، وأن النصر يتنزل إن حققت شروطه ، والشيخ قد رأى أن شروطه تحققت ، أو أن ذلك من باب الكرامة للشيخ رحمه الله تعالى ، ويشبه هذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه كان يقسم للناس أن الله سينصرهم على التتار في وقعة شقحب سنة 702هـ وكانت مع التتار أيضاً ، وكان إذا قيل له : قل إن شاء الله يقول : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً .
ثم إن المظفر قطزاً جمع المال من الناس ، فقرر على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً ، وأخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً ، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً ، وأخذ أشياء أخرى كثيرة ، واجتمع له من الأموال بسبب هذا ستمائة ألف دينار وكلاور ، فأنفق ذلك على العسكر والعربان وجهز جيشه ، والطريف أن أحد الشعراء قال في صنيعه هذا الذي اتكأ فيه على فتوى الإمام ابن عبد السلام :
إن سلطاننا الذي نرتجيـه واسع الحال ضيق الإنفـاق
هو سـيف كما يقـال ولكـن قاطـع للرســوم والأرزاق
وصل المظفر قطز إلى فلسطين في موقع هنالك يقال له ( عين جالوت ) ، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 658 ، وكان يوم جمعة ، فلما رأى جنود التتار وكثرتهم قال رحمه الله تعالى للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم ، وقد التقى مع التتار فانكلار الجيش الإسلامي ابتداء ، فترجل عن جواده ورمى خوذته وقال : وا إسلاماه ، فكان لهذه الكلمة فعلها في النفوس ، فاجتهد الجند والأمراء وقاتلوا قتالاً هائلاً ، وكان بينهما ما تشيب من هوله النواصي ، وقتل من الفريقين عسكر لا يحصى في معركة هائلة ، ثم انجلت المعركة عن هزيمة شنيعة للتتار ما ذاقوا مثلها من قبل ، وقتل قائدهم المحنك كَتْبُغانُوِين نائب هولاكو على بلاد الشام ، ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وما قامت للتتار قائمة بعد تلك المعركة ، بل كان أمرهم إلى بوار ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً بهذه النتيجة ، واتبعوا التتار يقتلونهم في كل موضع ، وهرب التتار من دمشق وحلب ، وأيد الله الإسلام وأهله ، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين الذين فرحوا بانتصار التتار قبل ذلك ، وظهر دين الله وهم كارهون .
وبعد : لقد نصر الله المسلمين في عين جالوت نصراً عظيماً لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقعه ، والمسلمون اليوم تحيط بهم أخطار كثيرة من جهات عديدة لكن بشائر النصر قريبة إن شاء الله تعالى ، فهاهم أسود الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون راية الدين عالية ، ويثبتون للدنيا جميعها أن هذه الأمة لا تموت ، ولا ينبغي لها أن تموت ، وأن رحمها ولود بالأبطال ، وأنها تستعصي على كل المؤامرات الدولية والمؤتمرات التيئيسية .